بما فعله من الفعل المقتضي للإثم فإن كان وجوبها في القتل لهذا المعنى فكيف لزمت من هو قاتل خطأ لا عمد فيه ولا عدوان فإن ذلك مغفور من الأصل كما في قوله سبحانه: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] ، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكى عن الله سبحانه أنه قال قد فعلت ومن ذلك حديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" وقد قدمنا لك أن طرقه قد عضد بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض فصلح للاحتجاج به وإن كان وجوبها تعبدا لحكمة خفيت على العباد فسمعا وطاعة لما أوجبه الله على عباده وهو ظاهر قوله عزوجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] , ولكنه ينبغي الاقتصار على مورد النص وهو أن يكون القاتل خطأ مؤمنا والمقتول مؤمنا فإذا انتفى وصف الإيمان من أحدهما فلا كفارة وكذلك قوله عزوجل: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَة} وقوله سبحانه: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الآية لتكون الكفارة واجبة حيث كان المقتول من قوم بيننا وبينهم ميثاق أو من قوم هم عدو لنا وكان المقتول مؤمنا وسقط القصاص بوجه من الوجوه ولم يجب إلا الدية.
وإذا تقرر لك هذا فما هو الواجب للكفارة على كل قاتل خطأ فإن قيل إنه حديث وائلة بن الأسقع عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن حبان والحاكم قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب فقال: "أعتقوا عنه رقبة يعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار"، فيقال هذا الحديث يدل على أن من استوجب العذاب بفعل معصية كائنة ما كانت من قتل أو غيره كان التكفير مشروعا له ومعلوم أن قاتل لخطأ لا إثم عليه ألبتة كما قدمنا فهو لم يستوجب العذاب فهو مؤكد للسؤال الذي ذكرناه ومؤيد له.
وأما ما روي في هذا الحديث بزيادة: "قد استوجب النار بالقتل" فهو لم يثبت عند أحد من هؤلاء الذين خرجوه من أهل الحديث وعلى فرض ثبوته فهو خاص لمن استوجب النار بالقتل وهو القاتل عمدا عدوانا إذا سقط عنه القصاص بعفو أو نحوه ويؤيد هذا ما أخرجه أبو نعيم في المعرفة من حديث خزيمة بن ثابت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "القتل كفارة"، قال ابن حجر وفيه ابن لهيعة لكنه من حديث ابن وهب عنه فكان حسنا قال ورواه الطبراني في الكبير عن الحسن بن علي موقوفا عليه والأصل فيه حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم: "من أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارة" الحديث وهو في البخاري بلفظ: "كفارته" انتهى فعرفت بهذا أن القاتل إذا قتل قصاصا لم يجب عليه كفارة وفيه دليل على أنه إذا لم يقتل قصاصا فعليه الكفارة.
فحاصل ما دلت عليه الأدلة أن الكفارة تجب في قتل المؤمن للمؤمنين خطأ لا إذا كانا مسلمين غير مؤمنين أو أحدهما ويجب في الفعل من قوم بيننا وبينهم ميثاق ومن قوم هم عدو لنا والمقتول مؤمن وسقط القصاص عن القاتل بوجه من الوجوه ويجب على قاتل العمد إذا سقط عنه القصاص بوجه ولا دليل على إيجابها على كل قاتل خطأ لما عرفناك من أنه لا ذنب