فالبينة هي ما يتبين به الشيء وتظهر عنده حقيقته والعلم من الحاكم من هذه الحيثية بينة بل هو أقوى بينة ولعله يأتي في الحدود ما يزيدك بصيرة إن شاء الله.
قوله: "وعلى غائب" الخ.
أقول: قد جعل الله لحكم الحاكم أسبابا معلومة يعرفها الحاكم وهي الإقرار أو البينة أو اليمين ويلحق بذلك مثل النكول والرد وقد تقدم تحقيق الكلام فيهما فالحاكم إذا قامت لديه الشهادة العادلة المرضية بثبوت الحق على الغائب أو الذي لا يعرف أين هو أو المتردد عن حضور مجلس الحكم فقد أوجب الله عليه إنصاف المحكوم له بحكم الله والقضاء بما شرعه الله ولا يتم ما أمر الله سبحانه من الحكم بالعدل والحق وبما أنزل إلا بهذا وهكذا لا يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بهذا ومن زعم أن غيبة الذي عليه الحق عذر للحاكم في مطل من له الحق وعدم إنصافه ورفع ظلامته فعليه الدليل وهذا إذا كان الدي عليه الحق في موضع لا يعرف فإن جواز الحكم عليه أظهر من جواز الحكم على من كان غائبا في مكان معروف وهكذا إذا كان من عليه الحق متمردا عن حضور مجلس الحاكم تاركا لما أوجبه الله عليه من الإجابة إلى شرعه فإن جواز الحكم عليه أظهر من الأمرين السابقين ولو تم للمتمردين عن الشرع تمردهم لم ينفذ الحق على غالب الناس وحينئذ تبطل الأحكام الشرعية المتعلقة بالمعاملة بين العباد ويبطل ما هو رأس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومثل قيام البينة عند الحاكم المتصفة بثبوت الحق عليه على ما تقدم تقريره ولكن على الحاكم أن يؤذن الغائب بأنه قد توجه الحكم عليه فإن بقي له ما يدفع به عن نفسه أورده إذا كان غائبا في مكان لا يلحق مشقة زائدة بالإعذار إليه وهكذا يعذر إلى المتمرد على أنه قد ورد في الحكم على من لم يحضر إلى مجلس الشرع دليل يخصه وكتبنا على ذلك رسالة مطولة وذكرنا فيها ما ينشرح له صدر المنصف وينثلج به قلبه فمن أحب الوقوف عليها فليقف عليها.
ويحتاط الحاكم حيث لم يكن الإعذار إلى الغائب أو المتمرد بالتولف على المحكوم له بأن لا يتصرف فيما حكم به له حتى ينظر ما يقوله الغائب بعد حضوره والمتمرد بعد رجوعه عن تمرده وكذلك مجهول المكان حتى يظهر مكانه.
فإن قلت إذا كان المطالب بالحكم فليس عليه إلا اليمين بأن يكون الظاهر معه قلت ينبغي أن يحكم له بيمينه المسندة إلى الظاهر الذي معه ويؤخذ عليه أن لا يتصرف فيه لجواز أن يكون مع خصمه الغائب أو المجهول أو المتمرد ما يترجح على يمينه وينقل عن الظاهر الذي معه فهكذا ينبغي أن يقال في هذا المقام وأما منع المانعين عن الحكم على هؤلاء فهو سد لباب حكم الشرع وإهمال لما أمر الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظلم بحت لمن جاء يشكو ظلامته ويعرض المستند الذي أمر الحكام بالحكم به.
وأما قدر مسافة الغيبة فينبغي تفويض النظر فيه إلى الحاكم المجتهد لاختلاف الأحوال باختلاف الأشخاص والأموال ومتى حضر هو أو المجهول أو المتمرد مجلس الحاكم عرض عليه