لغرض ولكن هذه لما كانت أسبابا شرعية وردت في الكتاب والسنة وأجمع عليها أهل الإسلام كان للقضاء بها حقا في ظاهر الشرع وجاز للقاضي الاستناد في حكمه إلى الظن لأن هذه الأدلة الواردة في أسباب الحكم هي من جملة مخصصات الأدلة الواردة في النهي عن العمل بالظن والوعيد عليه كما قيل في أخبار الآحاد ونحوها من الظنيات ومعلوم لكل عاقل أنه إذا كان الحاكم يعلم بالقضاء ويدري بالشيء على جليته وحقيقته فهذا مستند فوق ما يحصل له من تلك الأسباب لأنه علم والحاصل بتلك الأسباب ظن ولا خلاف في أن العلم أقوى من الظن وأن الاستناد إليه مقدم على الاستناد إلى الظن بل لا يبقى للظن تأثير مع وجود العلم أصلا فالحاكم الذي حكم بما يعلمه قد حكم بالعدل والحق والقسط بلا شك ولا شبهة ولم يكن من عمله مجوزا لكون حكمه باطلا وليس ذكر تلك الأسباب إلا لبيان ما هو ممكن في الواقع من التوصل إلى معرفة الحق مع عدم القطع والبت بمطابقة الحكم للواقع ولهذا يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار"، هكذا لفظ الحديث في الصحيحين وغيرهما فلا شك ولا ريب أن قضاء الحاكم بعلمه أسكن لخاطره وأقوى لقلبه وأقر لعينه من الحكم بالظن والعمل بما هو أولى هو مقبول لا يخالف فيه إلا من لا يتعقل الحقائق كما ينبغي كما تقرر في الأصول في الكلام على فحوى الخطاب.
هذا لو قدرنا أن تلك الأسباب لم يرد ما يدل على سببية غيرها ومعلوم أن التنصيص على بعض الأسباب لا ينفي سببية غيرها وأما ما قيل من أنه قد ورد ما يدل على انحصار الأسباب فيها وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "وليس لك إلا ذلك"، بعد قوله: "شاهداك أو يمينه"، [البخاري "5004"، مسلم "1497"] ، فيجاب عنه بأن هذا إنما يكون دليلا لو علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم بالواقع في تلك القضية وترك العمل بعلمه وعدل إلى طلب البينة واليمين ولم يثبت ذلك على أنه يرد على هذا الحصر إقرار من عليه الحق فإنه أقوى في السببية للحكم من البينة واليمين.
فالحاصل أن الحاكم بعلمه حاكم بالعدل والحق والتعليل بالتهمة لا وجه له ولا التفات إليه فإنه التهمة عن الحكام العادلين العارفين بما شرعه الله المتعلقين لحجج الله سبحانه منتقية ولا يعود عليهم من ذلك غرض يصلح لجعله علة أصلا وليس محل النزاع هو الحاكم المتهم بل محل النزاع هو الحاكم الجامع لما قدمنا ذكره في شروط القضاء وهو أبعد عن الريب وأنزه من أن يزن بعيب.
وأما استثناء الحدود فوجهه أنه إذا لم يحصل النصاب المعتبر فيها كان ذلك شبهة وهي تدرأ بالشبهات وأما ما استدل به على هذا الاستثناء من قوله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمتها"، كما تقدم في قصة الملاعنة فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم بوقوع الفاحشة منها ولكنه استدل على ذلك بما ظهر من القرائن كما تضمنته القصة وليس ذلك من باب العلم ومع هذا