ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس"، بعد أن قال له سعد: إنه يريد أن يتصدق بثلثي ماله قال: "لا" قال: فالشطر يا رسول الله؟ قال: "لا" قال: فالثلث؟ قال: "الثلث والثلث كبير" والحديث في الصحيحين [البخاري "1295"، مسلم "5/1628"، وغيرهما أبو داود "2864"، الترمذي "2116"، النسائي "6/241"، 242"، ابن ماجة "2708"، أحمد "1/179"] ، كان ذلك دليلا على عدم جواز مجاوزة الثلث لمن له وارث لأنه علل المنع بذلك.
وأما من لا وارث له فلا يدخل تحت هذا النهي ولا يصح الإستدلال على وجوب الإقتصار على الثلث بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم ليجعلها زيادة لكم في أعمالكم"، أخرجه أحمد وابن ماجه والبزار والدارقطني والبيهقي من حديث أبي هريرة وفي إسناده ضعف وأخرجه الدارقطني والبيهقي بنحوه من حديث أبي أمامة وفي إسناده مقال ورواه العقيلي في الضعفاء عن أبي بكر الصديق وفي إسناده متروك لأن الحديث لا تقوم به حجة كما ترى وعلى فرض قيام الحجة به فالتصدق منه تعالى عليهم بالثلث لا ينافي تصدقهم بزيادة عليه لأنه تعالى قد جعل كل مالك مفوض في ملكه فلا يخرج عن ذلك إلا ما ورد المنع منه بما لا يجوز مخالفته.
وأما رده صلى الله عليه وسلم لبيضة الذهب لمن تصدق بها وكذلك رده لمن تصدق بأحد ثوبيه فالوجه في ذلك ما هو مذكور في الحديثين من أنه "يقعد يتكفف الناس" فهذا هو الموجب لرد هذه الصدقة وقد قدمنا الكلام على نحو هذا في الهبة وفي النذر فارجع إليه.
والحاصل أنه من له وارث لم يصح تصرفه في زيادة على الثلث ومن لا وارث له يصح تصرفه في جميع ماله إذا لم يخش عليه الحاجة إلى الناس والوقوع في المسأ المحرمة ولا فرق بين المرض والصحة ولم يرد ما يدل على هذا الفرق الذي ذكره المصنف وكونه صلى الله عليه وسلم قال ذلك لسعد في حال مرضه فقد علله بعلة يستوي فيها المرض وغيره حيث قال: "إنك أن تذر ورثتك أغنياء" إلخ وهذا الحديث يقيد به ما ورد في الكتاب العزيز من قوله عزوجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] ، ويؤيده النهي عن وصية الضرار ويؤيده أيضا حديث الرجل الذي أعتق ستة أعبد عند موته ليس له مال غيرهم فأعتق النبي صلى الله عليه وسلم اثنين وأرق أربعة أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي ورجال إسناده رجال الصحيح وقد قدمنا الكلام عليه في العتق وفي آخر هذا الحديث أنه قال صلى الله عليه وسلم: "لو شهدته قبل أن يدفن في مقابر المسلمين".
قوله: "ولا رجوع فيها".
أقول: ما صدر عن طيبة نفسه بنفوذه في الحال قد حصل المناط الشرعي المقتضي لخروج الملك من مالكه إلى غيهر وأما إذا كانت نفس لا تطيب بالنفوذ ما دام حيا فلا ينفذ ذلك إلا بالموت وله الرجوع قبله لأن المناط الشرعي لم يوجد ها هنا.