يقول الزمخشري: إن معنى الآية: ما خلقت الجن والإنس إلا لأجل العبادة، ولم أرد من جمعهم لا إياها1؛ ولذا دعيت كل الأمم إلى واجبها، يقول تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، وكان النداء الأول في دعوة كل رسول هي: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} لأن الإيمان بالله الخالق والتسليم له يقتضي حتما وبالضرورة أن تكون العبادة له وحده.
إن العبادة هي الحبل الوثيق الذي يربط الإنسان بالله، وليس هناك سبيل سواها، والله قريب من عباده قربا ولا واسطة فيه، والداعية يعلم ذلك فيعبد الله مخلصا له الدين، ويتفرغ بكليته في عبادته؛ ولذلك فعبادته غذاء روحي، ترقَى به ذاته، وتذكره بالسلطان المطلق، وتسمه بحسن الخلق، وكريم المعاملة، وذلك كله سر العبادة وحقيقتها، فمثلا عن الصلاة -كعبادة- قد أمر الله بإقامتها دون مجرد الإتيان بها؛ لأن إقامة الشيء يعني الإتيان به مقوما كاملا، يصدر عن علته، وتصدر عنه آثاره، ومن المعلوم أن الغاية من الصلاة ذكر الله، كما قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} 2 وآثارها تظهر على المصلي ذاته لأنها: {تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر} 3 وهي بالإقامة عبادة حقة، فيها خضوع كامل، ناشئ عن إحساس يقيني بعظمة الرب القادر سبحانه وتعالى، ويتبعها أثرها المراد الذي يظهر في البعد عن كل باطل، والتخلق بكل حسن جميل، وهكذا كل عبادة تعطي للنفس جرعة من الذكر، وجزءا من السعادة.
ولا يرى الداعية من عبادته هذه المنزلة إلا إذا أداها مخلصا كما أمر، فإن القوم جميعا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} 4، وقد قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: " {إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} "5؛ ولذلك فهم