كل ذلك لم يؤثر فيهم، ولم يحملهم على مراجعة مواقفهم؛ لأن شحنة العداء التي شحنتهم بها الكنيسة ورجالها كانت أكبر وأعمق من قدرتهم على التخلص منها، فاستمروا في عدائهم وحقدهم، بل أخذ هذا العداء وذلك الحقد في الازدياد بعد أن غير التاريخ مساره، وأصبحت الغلبة للأوربيين على العالم الإسلامي منذ طرد المسلمين من الأندلس في نهاية القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، ومطاردتهم إلى شمال إفريقيا، ثم تطويق العالم الإسلامي من الخلف، ووصول الأساطيل البرتغالية إلى مداخل البحر الأحمر الجنوبية، وتلتها الأساطيل الإنجليزية والفرنسية والهولندية ... إلخ، وبدأت قصة استعمار أوربا لمعظم بلاد وأقطار العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه، وهنا دخل الاستشراق ليقوم بمهمة تسهيل أمر السيطرة الغربية على العالم الإسلامي، منفذين كل الدراسات التي يحتاجها رجال السياسة وصناع القرار في العواصم الغربية، الذين كان يهمهم الوقوف على التاريخ العربي والإسلامي، والكشف عن الحضارة العربية والتراث الإسلامي، فأحسنت كل دولة إلى مستشرقيها، فضمهم ملوكهم إلى حاشيتهم، أمناء أسراره وتراجمه، وانتدبوهم للعمل في سلكي الجيش والديبلوماسية إلى بلدان الشرق، وولوهم كراسي اللغات الشرقية، في كبرى الجماعات والمدارس الخاصة، والمكتبات العامة والمطابع الوطنية، وأجزلوا عطاءهم في الحل والترحال، ومنحوهم ألقاب الشرف وعضوية المجامع العلمية (?) .

ليس من غرضنا من كل ما تقدم في هذه الورقة أن نصم كل المستشرقين بالتعصب ضد الإسلام والمسلمين، ولا أن نجحد فضل المستشرقين على اختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم في الكشف عن كثير من كنوز حضارتنا، وتحقيقهم للكثير من مخطوطاتنا العربية الإسلامية، وبعثها في ثوب جديد وقشيب، كل ذلك نذكره ونشكرهم عليه؛ لأننا قوم لا نجحد فضل صاحب الفضل، هكذا علمنا ديننا وعلمنا رسولنا صلّى الله عليه وسلم، ولكن الذي نريد أن يعلمه قومنا أن الأصوات العاقلة والمنصفة من بين المستشرقين، والتي أنصفت الإسلام ورسوله ورسالته وحضارته- وهي كثيرة- هذه الأصوات ضاعت وسط الأصوات الحاقدة المتعصبة، ولم يعد لها أثر في الذهنية الأوربية والأمريكية، والأثر الذي بقي في الذهنية هو الأثر السلبي الذي تركته الكتابات الحاقدة والمتعصبة، والذي لا يزال يوجه شعور الأوربيين نحو الإسلام والمسلمين، وهو شعور الاستعلاء والتكبر على كل ما هو إسلامي، فهل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015