وصفه بريشة قلم، والتعبير عنه بأيّ قدرة بيانيّة، وصلاحيّة لغوية.
هل كان العصر الجاهليّ- الذي بعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم- قضية انحطاط اجتماعيّ أو خلقيّ، هل إنّه كان قضية وثنيّة مجردة، أو قضيّة خمر وقمار، وعبث واستهتار، أو ظلم واستبداد، قضية قوانين اقتصادية جائرة، وتعسف الحكام الغاشمين، هل إنّه كان قضية وأد البنات، كلّا، إنّه كان قضية وأد الإنسانية كلّها.
لقد انتهى هذا الدور، وانقرض هذا الجيل، وغاب هذا التصوير البشع عن أعين الناس، فكيف نعيده ونمثّله، ونجعله حسّيا شاخصا تراه الأبصار، وتلمسه البنان، وجلّ ما نستطيع أن نقول: إنّه عصر جاهليّ لا يفهمه حقّ الفهم إلّا من عاش فيه واكتوى بناره، ولو كان لمصوّر يحاول التصوير يمكن أن يمثّل البشرية في صورة إنسان في غاية الجمال والصّحة، والأناقة وحسن الهندام، الإنسان الذي هو نموذج بديع فريد لصنع الله الذي أتقن كلّ شيء، والذي هو محسود الملائكة، وغاية الخلق، الذي كلّله الله بتاج خلافته، فصار زينة الوجود، ولبّ لباب الحقيقة والعرفان، وبه تحوّلت هذه الأرض الخراب اليباب إلى روضة غنّاء، وحديقة فيحاء، ثمّ يصوّر هذا الإنسان يريد أن يقفز في خندق عظيم هائل ترتفع منه ألسنة اللهب، وقد تحفّز واستجمع قواه، وجمع ثيابه، ورفع رجله في الفضاء فعلا، وكاد يقع فيه، وما هي إلا دقائق وثوان حتّى يغيب في هذا الظلام المهيب، ظلام الموت، فلعلّ هذا التصوير يصوّر بعض الجانب من العصر الجاهليّ عند بعثة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة، فقال في إيجاز وفي إعجاز: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [آل عمران: 103] ، وذلك ما شرحه لسان النبوّة بمثال رائع بليغ، فقال عليه الصلاة والسلام: