إنّ التاريخ يدلّنا على أنّ الفكر الإنسانيّ أصيب في كثير من الأحيان بنوبات عصبيّة دفعته إلى التدمير والإبادة، بدلا من التعمير والبناء، فقد رأينا مستغربين مأخوذين بالحيرة والدهشة، ورأينا بأمّ أعيننا، ونحن لا نكاد نصدّق هذا الواقع لهول المنظر وبشاعة الوضع، أنّ الإنسان قام يهدم أساسه بكلّ قوّة وحماس، ذلك الأساس الذي قام عليه صرحه الحضاريّ والفكريّ العظيم، وظلّ مشتغلا بهذه العمليّة المجنونة بكلّ شوق ورغبة، كأنّها عملية بنّاءة ومأثرة إنسانية رائعة، وخدمة ممتازة، وصار يلحّ على الوقوع في خندق الموت، وقد تملّكته السامة من الحياة، واستبدّ به الشوق إلى الهلاك، كأنّ الحياة عذاب وجحيم، والهلاك جنة ونعيم.
ذلك هو الوضع الذي ساد على العالم في القرن السادس المسيحيّ، فإننا نجد هناك استعدادات عامة للانتحار الاجتماعيّ العام، لم يكن النوع البشريّ في ذلك الزمان راضيا بالانتحار فحسب، بل كان يتساقط عليه، ويتهالك فيه، كأنّه نذر به وحلف، فيريد أن يفي بنذره ولا يحنث في قسمه، ولقد صوّر القرآن العظيم هذا المنظر وهذا الوضع تصويرا دقيقا، لا يصوّره أيّ رسّام أو أديب، أو روائيّ أو مؤرّخ:
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [آل عمران: 103] .
رحم الله المؤرّخين، فإنّهم لم يصوّروا الجاهلية حين سردوا لنا وقائع البعثة المحمديّة تصويرا دقيقا، وهم معذورون ومأجورون، مثابون ومشكورون، فإنّ ذخيرة الأدب واللغة لا تسعفهم كلّ الإسعاف، الحقيقة أنّ هذا الوضع في قمّة من الهيبة والفظاعة، وفي منتهى الدّقة والتعقيد، لا يمكن