وحين نمعن النظر في هذا الجيل الفريد مقارنة مع أهل بدر نلاحظ ارتفاع عدد المهاجرين إلى النصف من الجيش، وهذا الارتفاع الهائل في عدد المهاجرين من ثلاثة وثمانين في بدر إلى ثمانمائة كان معظمه من القبائل العربية المجاورة, وهي قبائل صغيرة، إذا قيست بالقبائل الكبرى، لكن شبابها كانوا يفدون إلى المدينة ينضوون تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويتلقون التربية اليومية في المسجد، والتربية العملية في المعارك والغزوات، فيتدربون على الجندية الخالصة ويفقهون دينهم مباشرة من رسول رب العالمين، وينشؤون في ظلال القدوة العليا لهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ويتنافسون في الطاعة والامتثال لأمر الله ورسوله، فنالت قبائلهم بذلك شرفًا ربا على القبائل الكبرى التي تخاذلت في الانضمام للإسلام، فقبيلة أسلم وغفار كانت على رأس هذه القبائل، ويعود الفضل بعد الله في ذلك إلى الرعيل الأول منهم، واللبنات الأولى التي انضمت إلى الدعوة إلى أبي ذر الغفاري الذي كان من السابقين في إسلامه بمكة ومضى داعيًا في قومه حتى جاءه سبعون بيتًا من غفار يؤم بهم المدينة بعد أحد، وإلى بريدة بن الحصيب الأسلمي، الذي تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل دخوله المدينة، فأسلم ومعه سبعون من قومه كذلك (?).
أما القبائل الأخرى من مزينة وجهينة، وأشجع، وخزاعة، فقد بدأ شبابها يفدون إلى المدينة، لكن بأعداد ضئيلة, وبقي كيان القبيلة على الشرك، وبقي أعرابيًا بعيدًا عن محضن التربية العظيم داخل المدينة، فلم يتح له هذا الفضل، والاغتراف من رحيق النبوة؛ ولهذا كانت الآيات التي نزلت في المخلفين من الأعراب كالصواعق على رؤوسهم، لتخلفهم عن الانضمام إلى الجيش الإسلامي الماضي إلى الحديبية (?).
* * *
المبحث الثاني
صلح الحديبية وما ترتب عليه من أحداث
لما بلغ قريشًا أمر بيعة الرضوان، وأدرك زعماؤها تصميم الرسول صلى الله عليه وسلم على القتال أوفدوا سهيل بن عمرو في نفر من رجالهم لمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم (?) , ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيلا قال: «لقد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل» (?).