كانت حجة الوداع من أهم المعسكرات الإيمانية التي عاشها الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم مع الرسول عليه الصلاة والسلام لعدة أيام، ومن أسعد اللحظات، فقد علمهم وأدبهم وأرشدهم ووضح لهم الطريق وبين لهم المعالم فيها، فهذه الحجة لم تكن مجرد أداء لفريضة، بل وضعت فيها وبوضوح القواعد التي عليها تبنى الأمة الإسلامية، والأمور التي بها تحافظ الأمة الممكنة على تمكينها في الأرض.
وخطب الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الحجة ثلاث خطب، في ثلاثة مواضع مختلفة، في هذه الخطب بصر صلى الله عليه وسلم الأمة التي كتب الله عز وجل لها التمكين بما يحفظ لها هذا التمكين ويقويه، وهذه الحجة العظيمة، تحتاج إلى دراسة خاصة، وإلى تفريغ جهد ووقت، لعل في هذه المحاضرات لا يتسع الوقت لتحليل حجة الوداع، وسنفرد إن شاء الله لها محاضرة خاصة أو محاضرتين، نتحدث فيهما عن الدروس المستفادة والقواعد الهامة المستنبطة من هذه الحجة العظيمة.
لكن في هذا الدرس سنمر سريعاً على بعض الوصايا التي حرص صلى الله عليه وسلم أن يوجهها إلى أمته.
الوصية الأولى: دستور المسلمين هو الكتاب والسنة، والاعتصام بهما يحمي من الضلال ويحفظ الأمة، ويقود إلى الجنة، يقول صلى الله عليه وسلم: (وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وسنتي).
الوصية الثانية: الوحدة بين المسلمين على أساس الدين والعقيدة، لا على أساس العرق والعنصر، يقول صلى الله عليه وسلم: (تعلمون أن كل مسلم أخ للمسلم).
ويقول: (يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى).
الوصية الثالثة: العدل، والعدل المطلق، فلا تقوم أمة ولا تستمر وهي ظالمة، مع وصية خاصة بالنساء، فقال صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس إن لكم على نسائكم حقاً، ولهن عليكم حقاً).
الوصية الرابعة: التحذير من الذنوب، والتنبيه على أن ما يحتقره العبد من الذنوب قد يؤدي إلى هلكته، والتحذير من الشيطان، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم، فسيرضى به، فاحذروه على دينكم).
الوصية الخامسة: أن الاقتصاد الإسلامي ليس فيه مشروعية للربا، يقول صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن ربا الجاهلية موضوع).
وفي رواية يقول: (قضى الله أنه لا ربا).
هكذا وضع ربا الجاهلية جميعها.
الوصية السادسة: البلاغ، مهمة هذه الأمة البلاغ، وأن تحمل رسالة رب العالمين سبحانه وتعالى إلى العالمين، قال صلى الله عليه وسلم: (فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع).
وأكثر صلى الله عليه وسلم من قوله: (ألا هل بلغت، اللهم فاشهد، ألا هل بلغت اللهم فاشهد).
إذاً: مهمة الأمة الإسلامية: أن تحمل الرسالة إلى كل العالم.
الوصية السابعة: تأصيل مبدأ التيسير في الدين، وأن الشريعة كلها يسر، فقد أكثر صلى الله عليه وسلم في هذه الحجة من قوله: (لا حرج، لا حرج، افعل ولا حرج، افعل ولا حرج).
وليت المسلمين يفقهون طبيعة هذا الدين، إن طبيعة هذا الدين هي اليسر: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه).
الوصية الثامنة: السمع والطاعة لأمير المسلمين ما دام يحكم بكتاب الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا، وإن أمر عليكم عبد حبشي، ما أقام فيكم كتاب الله عز وجل).
الوصية التاسعة: أن الشرع يطبق على الحاكم كما يطبق المحكومين، ليس هناك استثناء أمام القانون قال صلى الله عليه وسلم (ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب).
ابن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال عن الربا: (وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله).
إذاً: تطبق الشريعة على الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، وهو زعيم هذه الأمة، وعلى عموم الشعب بكامله ليس هناك استثناء.
الوصية العاشرة: على الدولة الصالحة أن تأخذ بيد شعبها إلى الجنة، وليس فقط أن توفر لهم سبل المعاش المريح، والحياة الرغيدة، قال صلى الله عليه وسلم: (وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت).
الدولة العلمانية لا تنظر مطلقاً إلى هذه النقطة، فليذهب الشعب إلى الجحيم إن أراد ذلك، المهم عندها قيم في الدنيا، لكن الدولة الإسلامية لا تنظر للشعب هذه النظرة الآنية السطحية التافهة، وإنما وظيفتها الأولى أن تسعى حثيثاً لهداية الناس إلى رب دين العالمين سبحانه وتعالى، ومن أدوارها أن تدعو شعبها بل وتدعو العالم كله إلى دخول الجنة، فتلك عشر كاملة.
لا شك أن كل وصية من هذه الوصايا تحت