أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس السابع عشر من دروس السيرة النبوية: العهد المدني: فترة الفتح والتمكين.
في الدرس السابق تعرفنا على النتائج العظيمة لغزوة تبوك ورأينا قدوم الوفود الكثيرة إلى المدينة المنورة لتعلن إسلامها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لكل شيء نهاية، ولكل أجل كتاب، ولكل قصة خاتمة، وكثيراً ما نرى أن عمر الإنسان ينتهي دون أن يرى حلمه يتحقق، أو دون أن يشاهد خطة تنجح، لكن من سعادة الإنسان حقاً أن يطيل الله عز وجل في عمره حتى يرى ثمار عمله، ونتيجة جهده، فيسعد لذلك أيما سعد، ويشعر أن تعب السنين لم يذهب هباء منثوراً، نعم، لا يشترط للإنسان المخلص أن يرى نتيجة كده وتعبه، ولكن لا شك أنها نعمة من الله عز وجل ومنة عظيمة لا تقدر بثمن.
وقد عاش الرسول عليه الصلاة والسلام حتى رأى الجزيرة العربية بكاملها تقريباً تدخل في الإسلام، وتقر به، بعد حرب ضروس، بعد مقاومة عنيفة شديدة، ها قد دخل الناس في دين الله أفواجاً، ها قد مكن للإسلام وارتفعت راية التوحيد في كل مكان، ها قد عادت الكعبة المشرفة إلى حقيقتها، صارت كما كانت أيام إبراهيم عليه الصلاة والسلام يوحد فيها الله عز وجل، ولا يشرك به أحد أبداً.
لا أستطيع وصف سعادة الرسول عليه الصلاة والسلام الصلاة والسلام بكل هذا الخير.
وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يسعد إذا رأى رجلاً واحداً يؤمن، كان يقول: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم).
فها هو الآن لا يرى رجلاً ولا رجالاً يؤمنون، بل يرى الجموع الغفيرة والقبائل العظيمة والبلاد الكثيرة تدخل في دين الله أفواجاً.
فهذا التمكين يحمل معنى آخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولعموم المسلمين وهو أن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم قد أشرفت على الانتهاء، ومهمة الرسول عليه الصلاة والسلام كانت البلاغ، وها قد تحققت مهمته على الوجه الأكمل، ووصلت رسالته بيضاء نقية إلى كل الجزيرة العربية، بل وتجاوزت ذلك إلى ممالك العالم القديم، ووصلت الدعوة إلى فارس والروم ومصر واليمن والبحرين وعمان وغيرها، واكتملت كل بنود الشرع الحكيم.
وإذا كان قد حدث ذلك فمعناه: أن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاربت هي الأخرى على الانتهاء.
ومع كل الألم الذي يصاحب النفس عند تصور ذلك، إلا أن الواقع يخبر أن لكل شيء نهاية، ولكل أجل كتاباً، ولكل قصة خاتمة.
ففي أواخر العام العاشر من الهجرة كان واضحاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولصحابته أن أجل الحبيب صلى الله عليه وسلم قد اقترب، ومن رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى أنه مهد لهذا الموت بأحداث ومواقف وبعبارات كثيرة؛ وذلك ليهون على المسلمين مصابهم الفادح، ففتح مكة وإسلام هوازن وثقيف وقدوم الوفود تلو الوفود على المدينة المنورة كل ذلك علامة من علامات اقتراب الأجل، وأن المهمة قاربت على الانتهاء.
كذلك في شهر رمضان من السنة العاشرة من الهجرة اعتكف صلى الله عليه وسلم عشرين يوماً بدلاً من عشرة أيام كان معتاداً عليها، كل هذا كان تمهيداً لأمته أنه سيعتزلها ويبتعد عنها مدة أطول من المدة المعتادة، سيأتي وقت يبعد عنها بجسده تماماً، وإن كان سيظل بروحه وسنته وأقواله وأفعاله وتوجيهاته معهم إلى يوم القيامة.
وفي شهر رمضان أيضاً راجعه جبريل عليه السلام القرآن مرتين، بدلاً من مرة واحدة.
وفي شهر شوال توفي ابنه إبراهيم عليه السلام، ومع أن البعض كان يتمنى أن لو بقي شيء من عقبه صلى الله عليه وسلم ليذكرنا به، لكن هذه حكمة ورحمة من رب العالمين سبحانه وتعالى، فنحن رأينا مغالاة الشيعة في أحفاد الرسول صلى الله عليه وسلم من ابنته فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، ما بالك لو عاش له ولد، وكان له عقب ينتهي نسبهم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، لا شك أنها كانت ستتحول إلى فتنة عصمنا الله منها، ولله الحمد والمنة.
أيضاً في هذه الأيام بعث صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه إلى اليمن، وقال له: يا معاذ إنك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا، أو لعلك أن تمر بمسجدي هذا أو قبري.
هذه إشارات في منتهى الوضوح إلى أن أجله صلى الله عليه وسلم قد اقترب.
وفي شهر ذي القعدة من نفس السنة العاشرة بدأ صلى الله عليه وسلم في الاستعداد للقيام بالحج، للمرة الأولى والأخيرة في حياته صلى الله عليه وسلم، وهي الحجة التي عرفت في التاريخ بحجة الوداع.
ودعا إليها القبائل المختلفة من كل أنحاء الجزيرة العربية، وتجاوز المسلمون الذين حضروا هذه الحجة مائة ألف مسلم، وذكر بعض الرواة أن عدد المسلمين في هذه الحجة كان يزيد على (14000) من المس