هكذا قام هؤلاء العمالقة وغيرهم بمعظم أمر الأمة، لم تكن عظمة هؤلاء -كما ذكرنا- فيما أنفقوه، ولكن كانت العظمة الحقيقية في بذلهم لكل ما في الوسع، كانت عظمتهم في قيامهم لا بدورهم فقط، ولكن بأدوار أولئك الذين لا يستطيعون، أو بأدوار أولئك الذين تخلفوا عن نصرة الدين مع قدرتهم على ذلك، لم يقترح هؤلاء أن تقسم الأعمال على أغنياء الأمة، بل شعروا أنهم معنيون تماماً بهذا الأمر، ولو تقاعس الجميع فليس هذا مبرراً لتقاعسهم، الجيش جيشهم، والنصر أملهم، وعزة الإسلام هدفهم، والله عز وجل غايتهم وهو مطلع عليهم ويرى أعمالهم، وهذا يكفيهم.
قد يقول قائل: ألا يصل إلى درجة عمالقة الإيمان إلا أغنياء الأمة فقط الذين يملكون المال الوفير فيقدرون على هذه العطايا السخية؟ والإجابة على العكس تماماً، فليس المهم هو كمية الإنفاق، لكن المهم هو استنفاذ الوسع، وبذل الطاقة، ورب درهم سبق ألف درهم، وقد ينفق منافق نفقة عظيمة مردودة عليه لفساد نيته، وقد ينفق فقير درهماً واحداً فيصل به إلى أجر الأغنياء الذين بذلوا الألوف؛ من أجل ذلك تسابق عمالقة الإيمان من الفقراء لبذل الوسع في يوم تبوك، والوسع قد يكون مكيالاً من التمر، قد يكون دريهمات معدودات، هو جزء قليل في عدة وعتاد جيش ضخم، لكن هذا ما يستطيعونه ويقدرون عليه، فبلغوا بهذا القدر اليسير منازل كبار المنفقين في سبيل الله.
كل واحد مهما كانت إمكانياته، ومهما كانت قدراته يستطيع أن يكون من هؤلاء العمالقة، ليس هذا فقط، بل إن المسلم قد لا يملك شيئاً أصلاً ويتمنى في داخله أن لو استطاع أن يشارك أو يساهم أو يجاهد فيعطى أجر الشهداء وأجر المجاهدين وأجر المنفقين في سبيل الله، يريد أن يجاهد بماله، ولكنه معدم لا يملك درهماً ولا ديناراً، يريد أن يجاهد بروحه، ولكنه معتل ومريض ولا يقوى على حمل السلاح، يريد أن يشارك بجسده ولكنه لا يملك راحلة تصل به إلى أرض الجهاد، هؤلاء المعذورون الصادقون في نيتهم لهم من الأجر مثل ما للقادرين المجاهدين بأموالهم وأرواحهم، هذا هو العدل الإلهي فعلاً، يعامل الناس على قدر الوسع، وليس على ما يمتلكون من أموال أعطاها لهم رب العالمين سبحانه وتعالى، أو حرمهم إياها، اسمع إلى هذا الحديث في مسند أحمد بن حنبل رحمه الله، وسنن ابن ماجه عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر)، ثم ذكر منهم صلى الله عليه وسلم: (رجل آتاه الله مالاً وعلماً فهو يعمل بعلمه، وفي ماله ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل، قال صلى الله عليه وسلم: فهما في الأجر سواء)، يتمنى أن ينفق فيعطي أجر المنفقين في سبيل الله وليس معه شيء، أي رحمة من رب العالمين سبحانه وتعالى! هؤلاء قال الله عز وجل في حقهم: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:91].