إن قرار الخروج إلى تبوك لم يكن سهلاً، بل كان عسيراً بمعنى الكلمة، ولم نأت بهذا اللفظ من عند أنفسنا، بل هذا كلام رب العالمين سبحانه وتعالى لما قال: {فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة:117]، يصف هذه الموقعة بأنها العسرة، لماذا؟ لأكثر من أمر: أولاً: أن المدينة المنورة في ذلك الوقت كانت تعيش ضائقة اقتصادية، ولم تجن الثمار منذ فترة، وهذا الوقت الذي سيخرج فيه الجيش يعتبر موسم جني الثمار، ولو انتظر الجيش قليلاً لأمكن أن يكون هناك فرصة لإصلاح الأزمة الاقتصادية، ومع ذلك لو انتظرنا فمن المحتمل أن تهجم جيوش الرومان على الدولة الإسلامية، فلا ينبغي الانتظار.
إذاً: عندي مشاكل اقتصادية، ولا أستطيع الانتظار لإصلاح هذه المشاكل الاقتصادية مع احتمال الإصلاح إن انتظرنا، ولكن المشاكل ستكون أكبر مع الدولة الرومانية.
ثانياً: الحر الشديد.
فهذه الغزوة تمت في آخر شهور الصيف، وتخيلوا وضع جيش يخترق الصحراء القاحلة في هذا الجو الشديد الحرارة في الجزيرة العربية، إن الواحد منا يذهب إلى العمرة أو الحج في داخل المدينة، وتكون أموره ميسرة إلى حد كبير، ومع ذلك فإن الحر لا يُحتمل، فما بالك باختراق الصحراء على الجمال أو سيراً على الأقدام؟! كانت المسافة من المدينة المنورة إلى تبوك (700) كيلو متر، هذا بالقياسات الحديثة في الطرق المستقيمة، أما طرق الصحراء فمن المؤكد أنها كانت أطول من ذلك، طرق ملتفة وملتوية وصعبة.
ثالثاً: بعد هذه المسافة الطويلة أنا لن أقابل قبيلة من القبائل، أو فرقة من فرق جيش ضعيف، لا، بل كان الخروج لمحاربة جيش أكبر دولة في العالم في ذلك الوقت، جيش الدولة الرومانية العظمى، وهذا العدو ما كان العرب يتخيلون حتى لقاءه، فهي دولة ضخمة، ولها تاريخ طويل في الحروب.
في هذا الجو الصعب، وفي هذه الظروف الاقتصادية، مع وجود العدو القوي، في كل هذه الظروف يطلب من المسلمين أن يجاهدوا في سبيل الله، كان فعلاً امتحاناً عسيراً، ولماذا يعسر الله عز وجل الامتحان على المسلمين إلى هذه الدرجة؟ لسبب هام جداً، وهو تمييز المؤمن من المنافق.
والدعوة الإسلامية في ذلك الوقت وصلت من القوة إلى درجة لم يتخيلها أحد قبل ذلك، فقد كثر أتباعها، واتسعت مساحة الرقعة التي تحكمها، وكثرت الأموال، وأصبحت دولة ذات هيبة وسيادة وتمكين في الجزيرة العربية، كل ذلك جعل الكثير من العرب يسارعون إلى الدخول في الدولة الإسلامية وليسوا منها، يعني: يبطنون الكفر، أو الكراهية للدولة الإسلامية، ولكن يظهرون الإسلام، وهذا ما نسميه: بالنفاق، وكلما زاد تمكين الدولة صعب الله عز وجل الامتحان على المسلمين لإظهار المنافقين، أما الدولة الضعيفة فلا ينافق فيها إلا القليل، لكن الدولة الإسلامية الآن وصلت إلى قمة المجد -حتى هذه اللحظة- في السيرة النبوية، وعدد المسلمين سيصل إلى ثلاثين ألفاً أو أكثر في داخل المدينة المنورة، وهذا عدد هائل بالنسبة للعرب، من أجل ذلك اختلط الحابل بالنابل، واختلط الصادق بالكاذب، والمؤمن بالمنافق، فكان لابد من تمييز، فليكن الامتحان في قوة صعوبته؛ لكيلا ينجح فيه إلا الصادق حقيقة.