على الرغم من كل ما ذكرناه، وعلى الرغم من المثل الذي وضحنا به هذه الصورة، فهذا الموقف وهذه الكلمات لم تكن من عامة الأنصار، إنما كانت من بعض شباب الأنصار، ودليل ذلك ما جاء في الصحيحين في البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عن الذي قال هذا الكلام وأعلن بهذا الاعتراض، فقال فقهاء الأنصار وعلماؤهم وسابقوهم: (أما ذوي رأينا يا رسول الله فلم يقولوا شيئاً، وأما أناس حديثة أسنانهم قالوا: يغفر الله لرسول الله يعطي قريشاً ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم) يعني: أن هذا الكلام كان من بعض الشباب، لكن سعد بن عبادة رضي الله عنه كما سيتبين في الأحداث القادمة كان موافقاً على هذا الكلام، مع أنه لم يقله، وهذا الكلام واضح في رواية الإمام أحمد رحمه الله: قال سعد بن عبادة رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال سعد: يا رسول الله! ما أنا إلا من قومي) يعني: أنني أشعر بما يشعرون به وإن كنت لم أقل مثل ما قالوا.
ولا تنسوا أن الأنصار بشر وليسوا ملائكة، والبشر جبلوا على حب المال، فإذا كان هذا المال حلالاً صرفاً فما المانع من طلبه، وخاصة إذا كانوا يشعرون أنهم هم السبب في تلك الثروة، فلماذا لا يأخذون جزءاً منها.
ثم إن هناك بعداً آخر مهماً جداً وهو أن الأنصار كانوا يخشون أن يتركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيش في مكة المكرمة خير بقاع الأرض، وأحب بلاد الله إلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيها الآل والعشيرة، وفيها الطفولة والشباب والذكريات، وفيها أعز قبائل العرب قريش، وأهم مركز من مراكز التجارة في الجزيرة العربية، ويأتي لها الناس جميعاً طول السنة من كل مكان، وفيها من المقومات الكثيرة ما يجعل اختيارها كعاصمة جديدة للدولة الإسلامية أمراً مقبولاً جداً ومتوقعاً، فلما حدث توزيع الغنائم بهذه الصورة ثارت الشكوك في قلوب الأنصار، ولا ننسى أن الأنصار قالوا هذا الكلام قبل ذلك منذ أقل من شهرين عندما فتحت مكة، وطمأنهم صلى الله عليه وسلم أنه سيعود معهم إلى المدينة ولن يبقى في مكة المكرمة، وقال: (المحيا محياكم، والممات مماتكم) غير أنهم خافوا أن يكون الظرف قد تغير، والأحداث الجديدة غيرت من الصورة، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام أصبح له رأي جديد في هذه القضية، وأنه سيعود إلى مكة المكرمة ولن يعود معهم إلى المدينة المنورة، والرسول عليه السلام كان يشعر بأن الأنصار يشعرون بهذا المعنى؛ لأن في الحوار الذي دار بينهم كما سنرى أكد على أنه سيعود معهم إلى المدينة المنورة، فشعر أن الأنصار كانوا خائفين من بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة ويترك المدينة مع كل المشاكل التي ممكن أن تحصل في المدينة المنورة نتيجة خروج الرسول عليه الصلاة والسلام والجيش الإسلامي الأساس من المدينة.
أيضاً ينبغي أن نذكر عظمة سعد بن عبادة رضي الله عنه والأنصار رضي الله عنهم أجمعين، الذين كانوا صرحاء إلى أبعد درجة، وهذه الصراحة هي التي عالجت الموقف، فلو أخذ الأنصار بمثاليات غير واقعية، وأنكروا وجود مشكلة لتفاقمت هذه المشكلة، وحينها سيكون الحل والعلاج صعباً أو مستحيلاً.