هذه هي المقارنة التي عقدها المصطفى صلى الله عليه وسلم الغنائم مقابل الإسلام، الدنيا مقابل الآخرة، فهو صلى الله عليه وسلم هانت عليه الدنيا بكاملها وأعطاها دون تردد؛ لأن الدنيا عنده لا تعدل جناح بعوضة، والدنيا عنده قطرة في يم واسع، والدنيا عنده أهون من جدي أسك ميت.
هذا لم يكن كلاماً نظرياً فلسفياً، شاهده الناس جميعاً بعيونهم كان واقعاً في حياته وحياة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان هذا الواقع بارزاً في أبهى صوره في قصة غنائم حنين، حيث أعطى ما لم يعط أحد من العالمين، حتى بعدما أعطى هذا العطاء لم يتبق في يده شيء لنفسه صلى الله عليه وسلم، لم يتبق ما يعوض به فقر السنين وتعب العمر، وقد بلغ الستين من عمره، بل تجاوز صلى الله عليه وسلم الستين، لم يحتفظ بشيء لنفسه، بل وزع هنا وهناك على الأعراب، وعلى حديثي الإسلام، حتى إنه لم يبق معه شيء أبداً، وحاصره الأعراب الجفاة يطلبون المال والأنعام حتى اضطروه -وهو الزعيم المنتصر والقائد الأعلى والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم- اضطروه إلى شجرة ونزعوا رداءه، فقال في أدب وفي رفق وفي لين يليق به كنبي، ويجدر به كمعلم صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس ردوا علي ردائي، فو الذي نفسي بيده لو كان لكم عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً)! وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً، كان هذا هو فقه النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، كان هذا هو قراره صلى الله عليه وسلم بتوزيع خمس الغنائم بالكامل على المؤلفة قلوبهم، وكانت هذه هي تبعات هذا القرار ونتائجه، وكانت هذه هي الصورة في ذهن الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن هل استوعب كل الصحابة هذه الصورة؟ هل فهموا جميعاً هذه الأبعاد، وأدركوا هذه النتائج؟ هل اقتنعوا بهذا القرار حيث أعطى المؤلفة قلوبهم ولم يعط السابقين شيئاً؟ لا، ليس كل الصحابة اقتنعوا بهذا القرار، نعم هناك من أدرك هذه الأبعاد والنتائج، لكن هناك من لم يستطع أن يدرك هذه الأبعاد النبيلة في فكر الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان لابد لهم من الاستفهام والتساؤل، ومن هؤلاء مثلاً: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقد أبدى الاستغراب لهذا الأمر، قال سعد: يا رسول الله، أعطيت عيينة والأقرع مائة مائة وتركت جعيل بن سراقة الضمري.
وجعيل بن سراقة من أهل الصفة من فقراء المسلمين.
فأجاب صلى الله عليه وسلم الإجابة التي تفسر وتوضح ما فعله، قال: أما والذي نفس محمد بيده لـ جعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض خير مما يملأ الأرض كلهم مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، ولكني تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه.
رضي الله عنه وأرضاه.
هذه الكلمة تعدل عند جعيل مال الأرض كله، ليس معنى أنني أعطيت واحداً ومنعت الآخر أن الأول أفضل من الثاني، بل العكس فقيمة جعيل بن سراقة عند الرسول عليه الصلاة والسلام أغلى من ملء الأرض من مثل عيينة والأقرع مع أن جعيلاً أقل مالاً وأقل سلطة وأقل شهرة وأقل وضعاً اجتماعياً، لكنه أعلى إيماناً وأرسخ قدماً في الإسلام.
وجعيل رضي الله عنه وأرضاه فقه ذلك المعنى، وكانت هذه الشهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده أغلى ليس فقط من غنائم حنين، ولكن أغلى من كل مال الأرض.
إذاً: هذا كان استغراب بعض الصحابة مثل: سعد بن أبي وقاص من إعطاء حديثي الإسلام وترك السابقين من المهاجرين والأنصار.
لكن هناك استغراب كان أكثر أهمية وأكثر خطورة من مجموعة أخرى من المسلمين، هذه المجموعة كانت الأنصار.
ووجه الأهمية ومكمن الخطورة أن هذا الاستغراب والإنكار لم يكن فردياً في الأنصار، إنما كان جماعياً من مجموعة كبيرة من الأنصار، هذا موقف مشهور معروف وفيه دروس لا تحصى، ويحتاج إلى تحليل كبير، وإلى استخراج عبر وعظات وتعلم نهج نبوي راق جداً في إدارة الأمور، وكيف يخرج صلى الله عليه وسلم من الأزمات الطاحنة بأفضل النتائج التي لا تخطر على بال إنسان؟ إنه فقه نبوي حكيم رباني في تربية البشر وفي قيادة العالمين.
وبما أن هذا محتاج إلى تفصيل وأشعر أن الوقت قد لا يتسع لهذا التحليل؛ لذلك سنتكلم عنه بالتفصيل وعن غيره من الأحداث إن شاء الله في الدرس القادم.
أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.