استشار الرسول عليه الصلاة والسلام أحد أصحابه من أصحاب الخبرة العسكرية والرأي السديد، عندما تسمع اسم هذا الصحابي الذي استشاره الرسول عليه الصلاة والسلام سينتابك العجب لا محالة، من هذا الذي استشاره صلى الله عليه وسلم؟ إنه نوفل بن معاوية الديلي رضي الله عنه وأرضاه، هذا نوفل بن معاوية الديلي زعيم بني بكر القبيلة التي كانت متحالفة مع قريش بعد صلح الحديبية، وهو الذي قاد قومه لقتل خزاعة، والذي كان سبباً في نقض صلح الحديبية، والذي دخل الحرم المكي ليستمر في عملية قتل رجال خزاعة، والذي رد بالرد الكفري على قومه عندما قالوا له: يا نوفل إلهك إلهك، فقال: يا بني بكر! لا إله لكم اليوم، هذا هو نوفل بن معاوية الذي ارتكب كل هذه الجرائم منذ شهرين أو ثلاثة، والذي كان سبباً في خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فتح مكة المكرمة ثم حنين، ثم الطائف، وسبحان مقلب القلوب ومصرفها سبحانه وتعالى.
أسلم نوفل بن معاوية بعد هذا التاريخ الأسود مع المسلمين، أسلم وحسن إسلامه، وانضم إلى الجيش المسلم، وأصبح مستشاراً أميناً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإن كنا نعجب من تحوله من الكفر إلى الإيمان، ومن الغدر إلى الأمانة، ومن حلفه لقريش إلى دخوله في الإسلام، إن كنا نعجب من كل ذلك فالعجب كل العجب والإبهار كل الإبهار في الدروس التي يعطيها لنا معلم البشرية وسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم!.
فنحن نرى هذا التوظيف الرائع منه صلى الله عليه وسلم لكل الطاقات التي حوله، وهذا الاستغلال المفيد لكل من دخل في صف المؤمنين، وهذه القيادة المبهرة لكل هذه الأنواع المختلفة من البشر، وهذا الأمر لم يكن حدثاً عارضاً في حياته صلى الله عليه وسلم، لا، بل كان أمراً متكرراً وثابتاً في حياته كلها صلى الله عليه وسلم، ولعلكم تذكرون توليته عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه إمارة معركة ذات السلاسل ولم يمر على إسلامه إلا شهور قليلة، وكذلك تقريبه خالد بن الوليد في كل أموره، حتى قال خالد: فوالله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم أسلمت يعدل بي أحداً من أصحابه فيما حزبه! فهذا إحساس صادق من خالد بن الوليد، مع أنه من المؤكد أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان كثيراً ما يستشير أصحابه الآخرين مثل: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير وغيرهم وغيرهم أكثر من استشارته لـ خالد بن الوليد، لكنه كان صلى الله عليه وسلم يشعره دائماً بقيمته وأهميته واحتياجه لرأيه.
وكلنا يذكر توليته عتاب بن أسيد رضي الله عنه على مكة المكرمة، ولم يكن قد أسلم إلا منذ أيام، هكذا يكون التعامل مع الرجال، وبالذات الذين يتمتعون بملكات قيادية.
والقواد إذا همشوا لا تضيع قواتهم فقط، بل قد يكونون وبالاً على الأمة.
فالرسول صلى الله عليه وسلم بلغ قمة الحكمة في التعامل مع الناس، وقمة الحكمة في إنزال الناس منازلهم، وقمة الحكمة في احترام أرائهم واستغلال قدراتهم.
ومن هذه السياسة الحكيمة نرى نوفل بن معاوية القائد المحنك يدلي برأيه في قضية تنفع الإسلام والمسلمين، لو كان القائد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعله كان يتتبع قواد الجيش المعادي بالقتل والإبادة والسجن والتعذيب، مثل ما نرى في كل مكان، لكن الرؤية كانت واضحة جداً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، إنها سياسة نبوية ثابتة مستقرة، فماذا قال نوفل بن معاوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هم ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك.
يعني: هو يشبه أهل ثقيف بالثعالب، وهذا حقيقي ومشتهر عنهم وسط العرب، حتى قال عنهم عيينة بن حصن: إنهم قوم مناكير.
يعني: أصحاب دهاء وفطنة.
ورأينا من هذه الفطنة وهذا الدهاء في هذا الحصار الصعب، وهذه المقاومة الشرسة.
ثم إنه يؤكد أنهم لا مهرب لهم من هذه الحصون (إن أقمت عليه أخذته) غير أنه يشير إلى شيء في غاية الأهمية، يقول: إن شوكة ثقيف وهوازن قد كسرت ومعنوياتهم هبطت إلى الحضيض، لن تكون لهم قائمة بعد اليوم، فقد طارت فضيحتهم في الآفاق، لذلك قال نوفل في نظرة عميقة وتحليل دقيق: (وإن تركته لم يضرك).
يعني: لو صبرت على الحصار، فستصل إلى مرادك وستفتح الحصن، لكن تضييع الوقت في حصارهم قد يكون ضاراً بالجيش الإسلامي أكثر من ضرره بثقيف.
فهنا عقد الرسول صلى الله عليه وسلم موازنة بين الأمرين، فوجد أن بقاءه في هذه البلاد أكثر من ذلك سيوقع الدولة الإسلامية في أضرار أكثر من الفوائد المحصلة، فأخذ الرسول عليه الصلاة وال