لقد وقف خالد بن الوليد رضي الله عنه في جمع من المشركين بعد خروج الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة المكرمة في عمرة القضاء، في أواخر العام السابع من الهجرة، وقف وقال للجميع كلاماً عجيباً غريباً يُستغرب جداً من مثله في هذا الموقف، قال لهم: لقد استبان لكل ذي عقل أن محمداً ليس بساحر ولا شاعر، وأن كلامه من كلام رب العالمين، وقف هذا الموقف مع أنه كان قد سمع كثيراً من القرآن الكريم وكثيراً من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام قبل ذلك، لكن الآن جوبه بقوة وعزّة الإسلام فانبهر رضي الله عنه فقام هذا المقام وقال هذه الكلمات وهو من هو، وهو من أعظم زعماء مكة مطلقاً، وكان قائد الفرسان في معارك قريش، ولعل هذا هو الذي أخّر إسلامه إلى هذا الوقت، فعندما أسلم كان عمره سبعاً وأربعين سنة، ففي هذه الفترة كان قائداً في قريش، فكان يخشى على مكانته إذا انضم إلى الإسلام، وكانت له مكانة مرموقة جداً في الجيش المكي، وله مكانة مرموقة في وسط العرب، فخاف على هذه المكانة أن تضيع، وبالإضافة إلى أن أباه الوليد بن المغيرة كان من أشد أعداء الدعوة الإسلامية، لكن خالد بن الوليد في هذا الوقت تغير وانبهر بقوة الإسلام، وانبهر بالرسول عليه الصلاة والسلام أكثر وأكثر، وهذا الذي جعله يقول هذه الكلمات التي تعبر عن رغبته في دخول الإسلام، ثم علّق على هذه الكلمات وقال: فحق لكل ذي لب أن يتبعه.
ولما علم أبو سفيان ما قال خالد بن الوليد ناداه حتى يتأكد من أنه قال هذا الكلام أم لم يقله، فأكد له خالد صحة ما قال وكرر نفس الكلمات أمام أبي سفيان، فاندفع أبو سفيان إلى خالد بن الوليد يريد أن يضربه، فحجز بينهما عكرمة بن أبي جهل، وكان عكرمة في ذلك الوقت لا يزال مشركاً، وكان من أكثر الرجال قرباً إلى قلب خالد بن الوليد، وكانت بينهما صداقة قديمة جداً، فحجز عكرمة بين أبي سفيان وبين خالد وقال كلمات عجيبة هو الآخر لـ أبي سفيان قال: مهلاً يا أبا سفيان، فوالله لقد خفت للذي خفت أن أقول مثل ما قال خالد وأكون على دينه.
يعني: كما أنك تخاف من أن كلام خالد يؤثر في الناس، فأنا أيضاً قد خفت من هذا الكلام، بل إنني خفت أن أكون على دين محمد بعد هذا الذي رأيت في عمرة القضاء، ثم قال له: أنتم تقتلون خالداً على رأي رآه، وهذه قريش كلها تبايعت عليه؟ والله لقد خفت ألا يحول الحول حتى يتبعه أهل مكة كلهم.
أي: ليس خالد وحده منبهراً بمحمد وأصحابه، وهذا كلام صريح جداً، لكن كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، الجميع يعلم أن هذا الدين حق، وأن هذا الرسول حق؛ فلذلك كسر بعضهم كبرياءه واتبع الرسول عليه الصلاة والسلام، وبعضهم ظل في كبريائه وفي غيه إلى أن مات على ذلك، والحمد لله أن كل هؤلاء الذين دخلوا في الحوار أسلموا بعد هذا، لكن تأخر إسلام بعضهم عن بعض.
إذاً: هذا كان موقف خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، ولا ننسى أن خالد بن الوليد في يوم الحديبية قال كلمة عظيمة في حق المسلمين، قال: إن القوم ممنوعون، وذلك عندما نزلت صلاة الخوف كما ذكرنا ذلك في درس الحديبية، فـ خالد بن الوليد يعلم أن القوم ممنوعون من الله عز وجل، وأن الله عز وجل يحيطهم برعاية وعناية خاصة جداً، وهذا كله كان له أثر كبير جداً في قلب خالد بن الوليد.
لكن هناك شيء آخر أيضاً أثر في خالد كثيراً، وهو أن خالد بن الوليد عندما رأى جيش المسلمين داخل مكة المكرمة للعمرة في العام السابع من الهجرة، لم يستطع أن يحتمل هذا المنظر في بدايته، وخرج من مكة وتركها، وكان له أخ اسمه الوليد بن الوليد رضي الله عنه وهو من الصحابة الذين دخلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة للعمرة، فعندما دخل بحث عن أخيه خالد بن الوليد ليخبره عن أمر الإسلام فلم يجده، فكتب له كتاباً قال له فيه: بسم الله الرحمن الرحيم.
أما بعد: فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك، ومثل الإسلام جهله أحد؟ ثم كتب كلاماً عجيباً بعد ذلك، قال: وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك فهذه الكلمات كانت من أبلغ الكلمات أثراً في إسلام خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه.
قال له أخوه الوليد بن الوليد: (وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك قال: أين خالد؟ فقلت: يأتي الله به، فقال: ما مثله جهل الإسلام؟).
أي: كيف لـ خالد