لقد حدث شيء مهم في شهر صفر سنة ثمان، يحتاج إلى وقفة كبيرة ومهمة، وهو من أعظم ثمار صلح الحديبية وعمرة القضاء، وهذا الحدث يعتبر نقطة تحول ليست في تاريخ مكة المكرمة ولا في تاريخ الجزيرة العربية ولا في تاريخ العالم في ذلك الوقت، ولكن في تاريخ الإنسانية وإلى يوم القيامة، فأنت عندما تتدبر في هذا الحدث وآثار هذا الحدث على الأرض بصفة عامة في عمق الزمان والمكان تجد له آثاراً لا تنتهي، هذا الحدث العظيم هو إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة رضي الله عنهم أجمعين، ثلاثة من عمالقة مكة، بل من عمالقة الأرض بصفة عامة، هؤلاء الثلاثة لم يسلموا فقط في شهر صفر سنة ثمان، بل أسلموا في يوم واحد من شهر صفر سنة ثمان، فهذا نصر كبير جداً للإسلام والمسلمين، فقد عبّر صلى الله عليه وسلم عن إسلامهم بقوله: (إن مكة قد ألقت إلينا أفلاذ كبدها) وفي رواية: (أفلاذ أكبادها) يعني: خلاصة ما في مكة هم هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم وأرضاهم.
انظر إلى الآثار التي حدثت في الأرض على يد خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، وعلى يد عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، من الآثار أنها فُتحت العراق، وفُتحت فارس، وفُتحت بلاد ما وراء النهر، وفُتحت أرمينية، وفُتحت بلاد كثيرة جداً في آسيا، وفُتحت الشام، كل ذلك على يد البطل خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، وكذلك فُتحت فلسطين وفُتحت مصر على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، فكم من المسلمين الذين في هذه البلاد؟ وكم من الأعمال الصالحة؟ وكم من الجهاد في سبيل الله؟ وكم من الدعوة إلى الله عز وجل؟ وكم من العلم؟ وكم الإضافات الإنسانية؟ كل هؤلاء دخلوا بجهاد هذين البطلين العظيمين: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص رضي الله عنهما، فهو إنجاز هائل للمسلمين في العام الثامن من الهجرة، فإضافة هذين الاثنين في الدولة الإسلامية من أقوى الإضافات في تاريخ الإسلام، وأعطى الرسول عليه الصلاة والسلام هذين الرجلين أهمية خاصة جداً في أحاديثه وفي معاملاته صلى الله عليه وسلم، حتى إنه أعطى خالد بن الوليد رضي الله عنه لقباً ما أعطاه لأحد قبله ولا بعده، وسماه سيف الله المسلول، وقال عن عمرو بن العاص كلمات ما قالها لأحد غيره رضي الله عنه، قال عنه: (أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص) والحديث صحيح كما رواه الإمام أحمد والترمذي رحمهما الله عن عقبة بن عامر رضي الله عنه وأرضاه، وحسّن هذا الحديث الألباني رحمه الله.
فقوله: (أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص) كلمة كبيرة جداً في حق هذا البطل العظيم، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي عن طلحة رضي الله عنه وصححه الألباني، يقول: (عمرو بن العاص من صالحي قريش) وهذا الكلام فيه أبلغ الرد على كل من يطعن في هذين الصحابيين الجليلين العظيمين اللذين فتحا بلاداً شتى، لا أقول: دخل مئات الآلاف في الإسلام على يديهما فقط، وإنما دخل الملايين من البشر في زمانهم وإلى الآن، فكل المسلمين في فلسطين وفي العراق ومصر والشام، كل هؤلاء يدينون بالفضل لهذين البطلين.
هذا أمر خارج عن التصور، ويعتبر من أعظم أحداث التاريخ الإسلامي، لا بد أن ندرس إسلام هذين البطلين، لا بد أن نفهم لماذا أسلما بعد سنوات طويلة جداً من الصد والبُعد عن دين الله عز وجل؟ فإسلام هذين البطلين وغيرهما يحتاج منا إلى وقفة وتحليل، فالذي دفع هؤلاء إلى الإسلام هو الانبهار بقوة الإسلام، والانبهار بعظمة الرسول صلى الله عليه وسلم كقائد، فهؤلاء جميعاً من القادة العسكريين، ومن الفرسان المشهورين في بلاد العرب، لكنهم وجدوا أنفسهم أمام قائد بارع عظيم من القواد لم يروا مثله قبل ذلك، حتى في موقعة أحد فشل سيدنا خالد في إحباط الخطة التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن خالف الرماة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانت الخطة في تمام الإحكام، وكان سيدنا خالد يدرس هذا الكلام جيداً، ويعرف أنه لا يستطيع الغلبة على الرسول عليه الصلاة والسلام، ولولا مخالفة الرماة لما استطاع أن يأتي المسلمين من خلفهم، ولهرب مع من يهرب، فـ خالد قد فشل أكثر من مرة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، مما جعله ينبهر تمام الانبهار بقوة وبأس وتخطيط الرسول صلى الله عليه وسلم، وفوق ذلك ينبهر بأخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام كداعية وكإنسان يعيش وسط الناس بمبادئ وقيم معينة لا يخالفها، وعادة العسكريين أنهم يدوسون على كل القيم والأخلاق، ويحققون الأهداف بغض ا