ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم هو وزوجته خديجة إلى ورقة بن نوفل، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، وكان قد تنصر في الجاهلية، وكان ورقة بن نوفل يعلم أن نبيناً سيظهر في هذا الزمان، وكان ينتظره.
ويدل على مدى الجرم الذي كان عليه أهل الكتاب، أنهم كانوا يعرفون من كتبهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، وليس فقط من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يؤمنوا، لكن ورقة بن نوفل رحمه الله كان رجلاً صالحاً ورعاً، يعلم محمداً صلى الله عليه وسلم تاريخه وحياته وأخلاقه وصفاته، فلما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه القصة العجيبة التي حدثت في غار حراء، قال مباشرة ودون تردد: هذا الناموس -يقصد: جبريل عليه السلام- الذي أنزله الله عز وجل على موسى عليه السلام.
هنا يصرح ورقة بن نوفل بأمر خطير: أن هذا جبريل الذي كان ينزل على موسى عليه السلام، وجبريل لا ينزل إلا على الأنبياء.
إذاً: محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله.
أريد منك أن تتصور معي الموقف: كم من الأحاسيس والمشاعر التي كانت تتداخل في صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسمع هذا الكلام؟ هل هذا حلم أم حقيقة؟ حق أم باطل؟ النبوة ليست مقاماً يصل إليه أحد بالاجتهاد في العبادة، أو بالطريقة الفلانية، النبوة اختيار من رب العالمين سبحانه وتعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، تأمل معي موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يسمع هذا الكلام من ورقة، أيكون الله عز وجل قد اختاره من بين كل الخلق ليكون نبي آخر الزمان؟! لكن المشكلة: أن الرجل الذي جاءه في الغار لم يخبره بذلك، لم يقل له: إنه رسول، لكن على الناحية الأخرى ورقة يتكلم بيقين وثقة وتأكيد.
ثم قال له ورقة: (يا ليتني فيها جذعاً -أي: شاباً- إذ يخرجك قومك، فقال له رسول صلى الله عليه وسلم متعجباً: أو مخرجي هم؟)، لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم، يعرف أي شيء عن الأمم السابقة وقصص الأنبياء ومعجزاتهم؛ لأن تفصيلات الأمم الماضية لا يمكن أن تعرف إلا عن طريق الوحي.
يقول الله: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49].
لم يكن يعرف قصص الأنبياء، وقصص التكذيب والمعاناة الشديدة التي عاشها الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه مع أقوامهم، من أجل ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أو مخرجي هم؟)، لكن ورقة الحكيم العالم بقصص الأنبياء والمرسلين السابقين قال في يقين: (لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي).
وهذه قاعدة تخرج من فم ورقة بن نوفل رحمه الله قاعدة أصيلة لكل داعية: ما حمل داعية هذا الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عودي، سنة من سنن الله عز وجل: تدافع الحق والباطل، صراع بين الدين وأعداء الدين، سنة باقية إلى يوم القيامة.
ثم يقول ورقة: (وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً)، وورقة بن نوفل لم يدرك ذلك اليوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد مات بسرعة، وإن كان قد صدق برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبل التصريح بالرسالة، والرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح الحاكم بإسناد جيد يقول: (رأيت له جنة أو جنتين)، يعني: أنه من أهل الجنة إن شاء الله.
مات ورقة بن نوفل بعد أن سطر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من بعده إلى يوم القيامة قاعدة أصيلة: (لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي)، فهذه رسالة إلى كل الدعاة، هذا هو الطريق.