أما كسرى فارس وكان اسمه إبرويز بن هرمز، وقد ظهر عداؤه للإسلام من أول لحظة قرأ فيها الخطاب، وكان ينوي تدمير هذا الدين الجديد وحرب هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكان خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم لكسرى هو نفس خطاب هرقل إلى حد كبير، بدأ فيه بالبسملة، ثم بعد ذلك قال: (من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى عظيم فارس)، ثم بعد ذلك دعا صلى الله عليه وسلم كسرى إلى الدخول في الإسلام، لكن مع تغيير يسير في بعض الألفاظ لتناسب كسرى فارس والديانة التي هم عليها، قال صلى الله عليه وسلم: (سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، واشهد أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني رسول الله إلى الناس كافة، {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس:70]، فأسلم تسلم، فإن أبيت، فإن إثم المجوس عليك) خطاب في منتهى القوة.
فغضب كسرى غضباً شديداً عندما سمع هذا الخطاب، وتعامل معه بسطحية بالغة، لم يلتفت إلى المعاني التي فيه، ولا إلى الرسالة التي يشير إليها الخطاب، لكن كل الذي نظر إليه الشكليات التي في الخطاب، فأمسك الخطاب ومزقه، وقال في غطرسة: عبد من رعيتي يكتب اسمه قبلي، وسب الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما وصلت هذه الكلمات إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قال صلى الله عليه وسلم: (مزق الله ملكه)؛ لأنه مزق الكتاب.
وبالفعل ففي غضون سنوات قليلة جداً من هذه الأحداث مزق الله عز وجل ملك كسرى تماماً، وامتلك المسلمون كل الأراضي الفارسية، وسقطت الإمبراطورية الفارسية تماماً، وكانت تسيطر على مساحات هائلة من الأرض.
هذه هي النبوة في مواجهة الغطرسة المجوسية الكافرة، لكن كسرى فارس إبرويز لم يكتف بهذه الكلمات وبتقطيع الخطاب، لا، بل إنه حاول أن يعتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أن يعاقبه بنفسه، فأرسل رسالة إلى عامله الفارسي على بلاد اليمن، وكانت اليمن مستعمرة فارسية، وهي قريبة من المدينة المنورة، فأرسل رسالة إلى عامل اليمن واسمه باذان وكان فارسياً، وطلب منه أن يبعث رجلين من رجاله ليأتيا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدائن عاصمة فارس.
انظروا يبعث اثنين فقط من الرجال ليأتيا بزعيم المدينة المنورة، وانظروا كيف كانت نظرة كسرى فارس للعرب، بعث اثنين من الرجال ولم يبعث جيشاً ليأتيا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدائن عاصمة الدولة الفارسية، وقال لهما: أخبراه إن هو رفض فسيقتل، وسيهلك كسرى قومه ويخرب بلاده، فذهب الرسولان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالا له هذا الكلام، فطلب الرسول عليه الصلاة والسلام طلب منهما في أدب جم أن ينتظرا إلى اليوم التالي وسيرد عليهما، وجلسا في المدينة تلك الليلة، وفي هذه الليلة التي جاء فيها رسولا كسرى أتى الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بنبأ عجيب، أخبره أن هذا الزعيم الفارسي المتغطرس إبرويز قتل في نفس الليلة، ومن الذي قتله؟ قتله ابنه شيرويه بن إبرويز، وكانت هذه الوقعة في ليلة الثلاثاء (10) جمادى الآخرة سنة (7) هـ، وفي اليوم التالي أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الرسولين وجلس معهما وقال لهما: (إن ربي سبحانه وتعالى قتل ربكما الليلة، ففزع الرسولان وقالا: هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من ذلك، أنكتب عنك بهذا ونخبر الملك باذان الذي هو ملك فارس في اليمن؟ فقال صلى الله عليه وسلم في منتهى الثقة: نعم أخبراه ذاك عني)، ليس هذا فحسب، بل قال لهما في يقين: (وقولا له أيضاً: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى، وينتهي إلى الخف والحافر، وقولا له: إن أسلمت -يخاطب باذان - أعطيتك ما تحت يديك وملكتك على قومك)، والرسول عليه الصلاة والسلام عاملهما معاملة الملك الكريم وحملهما بالهدايا، وأعادهما إلى باذان مرة أخرى، ووصل الرسولان إلى باذان ملك اليمن الفارسي، وقالا له ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان باذان رجلاً عاقلاً؛ فإنه عندما سمع هذه الكلمات، قال: (والله ما هذا بكلام ملك، وإني لأرى الرجل نبياً كما يقول، وليكونن ما قال، فلئن كان هذا حقاً فهو نبي مرسل)، يعني: كيف عرف أن هناك شيئاً حصل في المدائن، وهي على بعد مئات الكيلو مترات في ذلك الزمن؟ ثم قال: (وإن لم يكن الذي قاله فسنرى فيه رأينا).
وذهبت الأيام وجاء خطاب من الزعيم الجديد في بلاد فارس شيرويه بن إبرويز جاء خطاب إلى باذان عامل اليمن يقول له فيه: إنه قد قتل أباه إبرويز؛ بسبب أنه قتل الكثير من أشراف فارس، وكاد أن يودي بفارس إلى الهلاك.
سوع