لقد كان هرقل على استعداد لاتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن في المقابل كانت هناك ثورة كبيرة جداً في داخل البلاط الملكي ترفض تماماً فكرة الإسلام، وأدرك هرقل أنه إذا أعلن رغبته في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فإن عليه أن يغامر بملكه، وعليه أن يخاطر بسيادته على شعبه، وقد ينزعه الأمراء نزعاً من رئاسة البلد، حتى إنه في رواية قال لـ دحية بن خليفة الكلبي الذي هو رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل، وأنه الذي كنا ننتظر، ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته.
وفي رواية أخرى ذكرها ابن كثير رحمه الله: أن هرقل اتبع الأسقف الأكبر للرومان فدخل عليه، فعرض عليه هرقل الكتاب، فلما قرأ الأسقف الكتاب، قال: هو والله الذي بشرنا به موسى وعيسى، الذي كنا ننتظره.
قال هرقل: فما تأمرني؟ قال الأسقف: أما أنا فإني مصدقه ومتبعه.
الأسقف الأكبر آمن.
فقال قيصر: أعرف أنه كذلك، ولكني لا أستطيع أن أفعل.
يعني: أنا أعرف أنه نبي، لكن لا أستطيع أن أتبعه، وإن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم.
وفي رواية أخرى: أن هذا الأسقف كان اسمه صغاطر وأنه خرج إلى الرومان، ودعا جميع الرومان إلى الإيمان بالله تعالى، وإلى الإيمان برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وأعلن الشهادة أمام الجميع: أشهد أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
فماذا عمل الناس؟ قام الناس كلهم إليه فضربوه حتى قتلوه.
وهذا الأسقف كان أعظم شخصية في الدولة الرومانية، وهو أعلم من هرقل عند الناس، وعلم هرقل بقتل هذا الرجل الأسقف الكبير فلم يستطع أن يفعل أي شيء مع من قتله، وهذا دلالة على ضعفه الشديد أمام الكرسي الذي يجلس عليه.
إذاً: هرقل عقد مقارنة سريعة جداً بين الملك والإيمان، وبين الحياة ممكناً وبين الموت شهيداً، فأخذ القرار بمنتهى السهولة، واختار الملك والحياة، ورفض الإيمان والشهادة، لم يكن ذلك لعدم تيقنه من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه ضن بملكه وضحى بالإيمان.
فأمر الإيمان واضح جداً، وإعجاز القرآن ظاهر، وطريق الإسلام مستقيم، والدلائل على صدق هذا الدين بينة وقاهرة وظاهرة للجميع، والإنسان هو الذي يختار، وعلى قدر قيمة الشيء في نفس الإنسان يضحي، والناس كلها تضحي، ولا أحد يستطيع أن يجمع كل شيء، والواحد قد يضحي بالإيمان من أجل أن يأخذ الملك، وآخر قد يضحي بالملك من أجل أن يأخذ الإيمان، فـ هرقل وأمثاله ينطبق عليه قول الله عز وجل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14].
ويقول الله عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [يونس:108].
وهرقل لا يمكن أن يعذر في عدم إسلامه مهما كانت فتنته، ومهما كان راغباً في الملك راهباً من الموت؛ لأن الإيمان لا يوزن إلى جواره شيء.
ويعلق الإمام النووي رحمه الله على موقف هرقل فيقول: ولا عذر له في هذا؛ لا عذر له في ترك الإيمان مهما كان سيضيع منه أو سيقتل، لأنه قد عرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما شح بالملك وطلب الرئاسة.
ويقول الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله أيضاً تعليقاً على هذا الحديث: ولو تفطن هرقل لقوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب: (أسلم تسلم)، وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة وأسلم، لسلم له كل الدنيا وكل الآخرة، لسلم من كل ما يخافه، ولكن التوفيق بيد الله عز وجل.
وهرقل بعد كل هذا اليقين اكتفى بأنه يُحمِّل دحية الكلبي بعض الهدايا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يفكر في قضية الإيمان، مع أنه كان يعلم أنه في يوم من الأيام سيئول كل ملكه الذي يحكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوقن بذلك؛ لأن ذلك موجود في التوراة والإنجيل، وقد قال قبل ذلك بوضوح في حواره مع أبي سفيان: (إنه سيملك موضع قدمي هاتين) وعندما غادر بيت المقدس إلى القسطنطينية، قال وقد أشرف على الشام حين طلع فوق ربوة عالية وأطل على الشام بكاملها، ثم قال: السلام عليك يا أرض سوريا.
يسلم عليها تسليم الوداع، وأنه لن يرجع إليها مرة أخرى.
أدرك أن هذه البلاد لن تبقى بعد هذا الظهور لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم تحت سيطرته، وبعد كل هذه القناعة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل هذا اليقين بنبوته لم يقف هرقل عند حد عدم الإيمان، ولم يقبل بالحياد، ولكن سير الجيوش تلو الجيوش لحرب المسلمين، مع إحس