الوقفة الثانية المهمة جداً: الثقة في القيادة، فأحياناً تتخذ القيادة قرارات لا يدرك الجنود كامل أبعادها، فكثيراً ما تكون الرؤية عند القيادة أشمل وأكبر، ويكون تحليل الأمور بصورة أعمق؛ لأن القيادة تطلع على أمور لا يراها الجنود، وتفكر في مصالح لا ينظر إليها الجندي، وتحاول تجنب مفاسد لا يدركها الجندي.
والقيادة الحكيمة هي التي تجمع بين الأحلام المطلوبة والواقعية في الأداء، وتقارن بين وسائل تغيير المنطق، وتعرف معنى التدرج في التغيير، وتقدر حجم المكاسب والخسائر، كل هذه أبعاد قد لا يراها الجندي المتحمس أو المسلم المتلهف لأن يرى الإسلام ممكناً له في الأرض ما بين يوم وليلة، فالقيادة هي التي تدرك كل هذه الأمور وقد تأخذ قرارات يراها الجنود أحياناً مخيبة للآمال أو يرونها محبطة للنفسيات أو خاطئة سياسياً، وأحياناً قد يرى الجندي أن هذه مخالفة شرعية، مع أن كل هذا قد يكون وهماً لا حقيقة له.
فالرسول عليه الصلاة والسلام قبل برد المسلم الذي يأتيه من مكة إلى المدينة مع خطورة ذلك عليه، نعم هذه خطورة حقيقية، لكن لماذا قبل بذلك؟ لأنه ينظر إلى المصالح مجتمعة، وينظر إلى المفاسد مجتمعة، فوجد أن المصالح أعلى بكثير من المفاسد، مع الإقرار التام أن أمر إعادة المسلم إلى مكة أمر فيه مفسدة، لكن المصالح أعلى، وهو لا يستطيع أن يمنع المفسدة الآن، فقبل بها، وعليه أن يختار المصالح الكثيرة التي معها بعض المفاسد، ولا يختار دفع بعض المفاسد ويضيع المصالح الكثيرة، وهذا الأمر يحتاج إلى حكمة وإلى ورع وإلى علم، والموفق من وفقه الله عز وجل.
وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قَبِلَ قَبْلَ ذلك بأمور لا يحبها، بل يمقتها كل المقت، ولكن الواقع فرضها عليه، ولم يقبلها قبل ذلك المتحمسون من الشباب، ثم تبين أن الخير كان في قراره صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بعدم الرد على من آذى المسلمين وعذبهم -بل وقتلهم- في العهد المكي، وهذا كان حكماً شرعياً قبل به الرسول عليه الصلاة والسلام وعموم الصحابة في ذلك الوقت، لكن بعض المتحمسين من الصحابة لم يقبلوا بهذا الأمر، وقالوا: لم نعطي الدنية في ديننا؟ ولم لا نرد على المشركين؟ ولم كذا وكذا؟ ثم ظهر لهم بعد ذلك الخير في قرار الشرع.
فهذا ما نسميه: بفقه المرحلة، أو فقه الموازنات.
كذلك تطاول اليهود على المسلمين في أوائل عهد المسلمين بالمدينة، وقاموا بأمور كان من الممكن أن تفسر على أنها نقض للمعاهدة، ومع ذلك التزم الرسول عليه الصلاة والسلام بسياسة ضبط النفس قدر المستطاع، ليس هذا لضعف ولا لتفريط، ولكن فقه المرحلة وفقه الموازنات يقتضي ذلك.
وهكذا كان الوضع في صلح الحديبية، وهكذا كان الوضع أيضاً في مواضع كثيرة جداً في السيرة النبوية، بل لعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا: إنه يكاد يكون مستحيلاً أن تجد قراراً يخلو من أي سلبية، وإنما القضية قضية موازنات، حتى إننا في الأمثال الشعبية نقول: (ما هناك حلاوة من غير نار)، دائماً توجد مشكلة، ومع ذلك الموازنة بين المصالح والمفاسد هي التي تختار قراراً دون قرار.
وهذه كلمة جميلة جداً لـ عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه وهو مشهور بالحكمة، قال: ليست الحكمة أن تدرك الفرق بين الخير والشر، أو الفرق بين الحلال والحرام، ولكن الحكمة أن تدرك أي المنفعتين أعلى وأي الضررين أكبر.
هذه هي الحكمة.
المهم في هذا المقام أن تدرك أنه لكي تقوم وتسود وتمكن لا بد من أخذ قرارات تبدو في ظاهرها مؤلمة للمسلمين، وقد يبدو فيها للناظر مخالفات شرعية، لكن المدقق والمحلل والعالم ببواطن الأمور سيجد أنها أخف الضررين، وليس معنى هذا أنها ليست ضرراً، لا، بل هي ضرر، ولكن في هذا الموطن هي أخف الضررين، فتقبل شرعاً ولا تعد مخالفة.
ولا بد لكل جندي أن يدرك كل هذه الأبعاد، ومن ثم يعذر القيادة، ويقدم لها النصح والإرشاد بأدب، ويقبل منها الأمر والتوجيه، وكل ذلك لا يمكن أبداً أن يكون إلا بثقة تامة في القيادة، وإدراك كامل للعبء الثقيل الملقى على أكتاف القادة، وبغير هذه العلاقة الوثيقة بين القيادة وجنودها لا يمكن لجماعة أو لأمة أن تقوم.
إذاً: هذه النقطة الثانية مهمة جداً، أنه يجب أن تتوافر الثقة في القيادة، وأن يدرك الجنود أن القائد قد يختار من الأمور ما قد يحزن الجنود، ولماذا اختار هذا؟ لأنه أخف الضررين، ولم يختر هذا الأمر لأنه يرغب في الضرر ذاته أو لأنه متنازل أو مفرط، أبداً، إذاً: لابد أن نفهم هذه القاعدة جيداً.