الوقفة الأولى: هل كان الصحابة يرون كل هذا الخير من الآثار التي ذكرناها، وقد توجد غيرها وغيرها؟
صلى الله عليه وسلم لا، فالصحابة ما كانوا يرون هذا الخير كله، بدليل ما رأيناه منهم ومن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه بالذات، لكن ما حدث في صلح الحديبية هو وحي، بدليل قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إنه ربي ولن يضيعني أبداً)، فهذا وحي، ومع ذلك لم ير الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم الخير في هذه النقطة الشرعية في ذلك الوقت، وهذا أمر غريب، وإذا كنا نلوم الصحابة أنهم وقعوا في هذا الأمر مرة في حياتهم فلا بد أن نعترف أننا نقع فيه مراراً.
فما أكثر ما سمعنا عن حكم الشرع في قضاياً كثيرة جداً، ويكون أحياناً الحكم مباشراً جداً وواضحاً جداً، لكننا نقدم رأينا، أحياناً نرى الأم والأب يتركان البنت بلا حجاب بغية الزواج، والعلة في أذهانهما أنهما يريدان أن تتزوج البنت، ولو حجبت في اعتقادهما فهذا سيؤخر زواجها فيتركانها من غير حجاب، وهذه مخالفة صريحة للشرع، فهما يريان الخير في غيره فيقدمان رأيهما ويلغيان من حياتهما حكم الشرع في هذه الجزئية.
ونرى استثمارياً كبيراً جداً يقترض بالربا؛ لكي يقيم مشروعاً كبيراً وعنده مليون علة في ذهنه لهذا الأمر، فهو يعلم حكم الشرع تماماً ثم يخالف بغية البحث عن خير، فهو يرى أن الخير في مخالفة الشرع في هذه الجزئية.
ونرى دولة تبيع خمراً؛ لكي تنشط السياحة لديها.
ونرى حاكماً يوالي دولة قوية وإن كانت معادية للإسلام؛ لأنه يرى أن هذا أصلح لحياة الناس، ولا يرى الخير في حكم الشرع، وهذه القضايا نراها كثيراً جداً في حياتنا، لكن الخطير جداً في حياتنا أننا نفعل ذلك طلباً للدنيا، وليس طلباً للآخرة، أما خطأ الصحابة في قضية صلح الحديبية فلم يكن طلباً للدنيا أبداً، إنما فعلوه طلباً للآخرة، ليس لدى الصحابة مصالح دنيوية يرجونها يوم الحديبية رضي الله عنهم أجمعين، وإنما كانوا يريدون أن يدخلوا مكة لأداء عبادة العمرة، لم يأتوا لتجارة ولا لحرب ولا لأي مصلحة دنيوية، بل جاءوا لأداء عبادة العمرة ثم يعودون بعد ذلك إلى المدينة المنورة، وإن منعوا قاتلوا، والقتال كان خطيراً جداً؛ لأنهم لا يملكون سلاح المقاتل، وكانوا معرضين للقتل، ومع ذلك يقبلون بذلك، أي: أنهم عندما عرضوا رأياً مخالفاً لحكم الشرع، ما عرضوا ذلك إلا طلباً للآخرة، وليس طلباً للدنيا، ولو كانوا طلاب دنيا لآثروا الرجوع حفاظاً على حياتهم.
إذاً: نستفيد من صلح الحديبية بعد رؤية الخير العميم الذي نتج عنه: أن نرضى بشرع الله عز وجل، ولا أقول: نقبل بشرع الله عز وجل، ولكن نرضى بشرع الله عز وجل بحب واقتناع؛ لأنه وإن كانت عيوننا لا ترى الخير فإننا على يقين أن الخير موجود، سنراه اليوم أو غداً أو بعد سنة أو سنتين أو أكثر، أو ربما نموت قبل أن نراه، لكن من المؤكد أن فيه خيراً، قال الله عز وجل: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216] وقال سبحانه وتعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19].
نحن نريد أن نصل إلى درجة التسليم الكامل لرب العالمين سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل في كتابه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، ودرجة التسليم معناها: الرضا الكامل بحكم الله عز وجل، وأن نوقن يقيناً جازماً أن الخير فيما اختاره لنا الله عز وجل، والصحابة رضوان الله عليهم تعلموا من درس الحديبية حين رأوا الخير الذي حصل بعد صلح الحديبية، مع أنهم في وقت الصلح لم يكونوا يرون هذا الخير، وخاصة وقت موقف أبي جندل ما كانوا يشاهدون إلا الشر، من أجل هذا عرف عمر بن الخطاب أنه كان مخطئاً وحاول قدر المستطاع بعد ذلك أن يكفر عن الخطأ الذي حدث منه في يوم الحديبية، يقول: (فعملت لذلك أعمالاً).
يعني: عمل أعمال خير كثيرة جداً؛ للتكفير عن هذا الأمر، ويقول: (فما زلت أتصدق وأصلي وأصوم وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيراً).
فما عرف أنه مخطئ فقط، بل استفاد من الدرس بعد ذلك في كل حياته، فكان يقول معلماً للمسلمين رضي الله عنه وأرضاه: (أيها الناس! اتهموا الرأي على الدين) يعني: قد يكون لك رأي في قضية من القضايا وتشعر أنه أفضل من الحكم الشرعي في هذه القضية، وهذا يأتي على أذهان الكثير، فاتهم رأيك مهما كان في تصورك مقنعاً وقدم حكم الشرع، يقول: (اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي، فوالله ما آلو على الحق)، يعني: أنا كنت فعلاً أبحث عن الحق، ومع ذلك كان الخطأ في رأيي والصواب في حكم الشرع، (وذلك يوم أبي جندل).
ويقول نفس الكلام سهل بن