كل الطوائف من اليهود والمشركين كانت حاقدة على الإسلام، وكان المسلمون في كل المعارك السابقة يواجهون كل قبيلة على حدة، فإذا تجمعت هذه القبائل فإنها ستحدث أزمة كبيرة على المسلمين، لكن كيف تتجمع هذه القبائل وهي متفرقة في شدة التفرق؟ فإن العرب لم يتجمعوا في يوم من الأيام، إنما هم عبارة عن قبائل منفردة؛ كل قبيلة لها قانونها ولها زعيمها ورأيها، فكيف تتجمع هذه القبائل على قلب رجل واحد لحرب المسلمين؟ هذا شيء مستغرب، لكن لليهود فيه دور كبير.
لقد كان لليهود دور كبير في تجمع القبائل لحرب المسلمين، فقد جمعوا القبائل من هنا وهناك ولم يشتركوا هم في المعركة، وهذا هو دور اليهود المعروف عنهم منذ سنين طويلة، وما زالوا يعملون ذلك باحتراف إلى هذا الوقت، وسيستمرون على ذلك، فهم دائماً يؤلبون غيرهم على حرب الإسلام وحرب دعوة الحق، ويخرجون هم تماماً من الصورة والأحداث.
وهذا ما فعله اليهود أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، خرجت من خيبر مجموعة من يهود خيبر وبني النضير، فيهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق، وأخذوا يؤلبون القبائل على المسلمين، ويجمعون القبائل المتفرقة لحرب دولة الإسلام في المدينة المنورة.
ذهبوا أولاً إلى قريش وقالوا لهم: الفرصة سانحة في أن نجمع لكم القبائل من غطفان وبني سليم وغيرها لحرب المسلمين، ولم تصدق قريش أنها وجدت مثل هذه الفرصة؛ وذلك لأن قريشاً طعنت في كبريائها يوم أن عادت من بدر الصغرى دون قتال في شعبان سنة (4 هـ)، وبدأ القرشيون يجمعون من القبائل المحيطة بمكة المكرمة ما يستطيعون جمعه من الجنود، حتى جمعوا (4000) مقاتل، وانتقل اليهود بسرعة من قريش إلى غطفان في شرق الجزيرة العربية، والتقوا بزعماء غطفان هنا وهناك، وكانت هذه القبائل الغطفانية تنتظر الفرصة كذلك، فقال لهم اليهود: قريش معكم، فقد جمعت (4000) مقاتل، لكن غطفان لم تتشجع كثيراً على القتال لخوفها من المسلمين، مع أن قبائل غطفان كثيرة ومعها قريش، لكن اليهود ما يئسوا، قالوا لهم: إن لم تكونوا متحمسين على القتال فنحن نحمسكم بالمال، فمع بخل اليهود الشديد إلا أنهم ينفقون المال الكثير إذا كان هذا الإنفاق للصد عن سبيل الله، فهم ينفقون ببذخ وكرم كبير لا يتخيله أحد، هذه هي طبيعتهم، فوعدوا زعيم بني فزارة عيينة بن حصن وبقية زعماء غطفان أن يعطوهم ثمار خيبر كاملة لمدة سنة، وكانت خيبر غنية بالثمار، فكل ما ينتج فيها من ثمار يدفع لغطفان ولـ عيينة بن حصن على أن يجمعوا جيشاً قوامه (6000) مقاتل.
إذاً: ستة آلاف من غطفان وبني سليم، وأربعة آلاف من قريش، وهكذا اجتمع (10.
000) مقاتل، وطارت الأنباء المرعبة إلى المدينة المنورة، فقد كان هذا أخطر الأنباء من أول إنشاء الدولة الإسلامية، فإن العرب كانوا إذا وصل عددهم (1000) يفتخرون، يقول أحدهم: إنا لنزيد على الـ (1000)، ولن يغلب (1000) من قلة، إذاً: تخيل (10.
000) مقاتل قادمين باتجاه المدينة المنورة ليحاصروها من كل مكان، وفيهم من الحقد ما فيهم.
ووصل الخبر على المسلمين وكان ثقيلاً، وميز الله بهذا الخبر الخبيث من الطيب، قال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال:37]، فإنه لما سمع المؤمنون الصادقون بهذا الخبر قالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]، فالجيوش والأمم والأعادي كلهم سيتجمعون عليهم باختلاف إستراتجياتهم وأفكارهم، لكن وعدهم الله بالنصر عليهم إن هم تمسكوا بمنهجه سبحانه وتعالى، فها هو الجزء الأول يتحقق: وهو تجمع الأحزاب حول المسلمين، أما الجزء الثاني فلا بد أن يتحقق: وهو النصر عليهم ما داموا متمسكين بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم بفضل الله متمسكون: فالنصر آتٍ إن شاء الله، مع أن الظاهر مختلف تماماً، فالأحزاب (10.
000) مقاتل يحاصرون المدينة، فكيف الخروج من هذه الأزمة؟ فما زالوا لا يعرفون، لكنهم متيقنون تماماً في وعد رب العالمين: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].
أما على الناحية الثانية فارتعب المنافقون، كيف يحاربون عشرة آلاف مقاتل؟ والمنافقون لا يحسبون الأمر إلا بحسابات الورقة والقلم والحسابات المادية فقط، ولا يقتنعون بقدرة رب العالمين سبحانه وتعالى وبحكمته وبإرادته وبهيمنته على الكون بكامله، فلم يستطيعوا أن يعوا هذا الأمر، وأخذوا يحسبون كل شيء بالورقة والقلم، كيف يحارب المسلمون (10.
000)، والمسلمون داخل المدينة بكاملها سواء كانوا من الرجال أو من النساء أو من الأطفال أو من الشيوخ أو من الصادقين أو من المنافقين لا يصل عددهم إلى (10.
000)؟ فكيف سيحاربون جيشاً مؤهلاً لحرب المسلمين قوامه (10.
000) مقاتل؟ وحينما سمع