أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس الثالث عشر من دروس السيرة النبوية في العهد المدني.
في الدروس السابقة تحدثنا عن غزوة أحد والمصيبة الكبيرة التي وقع فيها المسلمون، سواء كانت المصيبة نتيجة مخالفة الرماة لأجل الدنيا، أو كانت نتيجة الهروب من أرض المعركة أو الإحباط، أو غير ذلك من الأمور.
وذكرنا الآثار الوخيمة التي أتت على الجيش المسلم نتيجة هذه المصائب المتتالية، وذكرنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعد أن دفن الشهداء المسلمين وعاد إلى المدينة المنورة، استطاع بفضل الله عز وجل وبالمنهج الرباني الحكيم أن يخرج بالمسلمين من هزيمتهم النفسية، وأن يصلح انكسارهم الكبير، وينتقل بهم ليس فقط إلى مجرد تضميد الجراح، بل إلى مرحلة الهجوم من جديد على جيش الكفار، وإعادة الكرة عليهم، ورفع الرأس من جديد، وإعادة الهيبة إلى الأمة الإسلامية، وخرج بعد أقل من أربع وعشرين ساعة إلى غزوة حمراء الأسد يطارد المشركين، وعسكر بالقرب من المدينة المنورة على بعد ثمانية أميال، ولما علم بذلك جيش المشركين فر إلى مكة، ولم يقو على اللقاء الجديد مع المسلمين، هذا ملخص ما قد ذكرناه في الدروس الثلاثة السابقة.
إن قريشاً قبل أن تغادر أرض أحد كانت قد أعلنت للمسلمين أنها على استعداد للتلاقي مرة ثانية، واختارت بنفسها المكان الذي سيتم فيه اللقاء الثالث بينها وبين المسلمين، واختارت موقع بدر، لترد بذلك هزيمة بدر؛ ولترفع من جديد من قيمة قريش وهيبتها في وسط الجزيرة العربية، وقبل الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الأمر، وقال: (موعدكم في قابل) أي: في العام القادم في نفس المكان.
إذاً: كان اللقاء الأول بين المسلمين وبين الكفار في بدر في رمضان سنة (2هـ)، واللقاء الثاني كان في شوال سنة (3هـ)، واللقاء الثالث منتظر ومفترض أن يكون في شوال سنة (4هـ)، ووافق الطرفان على ذلك، وعاد الرسول عليه الصلاة والسلام من موقعة حمراء الأسد إلى المدينة؛ ليعيد حساباته من جديد.
وعلى الرغم من أن غزوة حمراء الأسد أعادت شيئاً من الهيبة إلى الأمة الإسلامية، إلا أنه لا شك أن موقعة أحد هزت سمعة الدولة الإسلامية في الجزيرة العربية بكاملها.
وقد رأينا بعد غزوة بدر انتشاراً إسلامياً كبيراً في الجزيرة العربية، بل سيطرة عسكرية على مناطق بعيدة جداً عن المدينة المنورة، ورأينا رضوخ كثير من القبائل العربية -على الرغم أنها ما زالت على إشراكها- لسيطرة المسلمين العسكريين؛ لأن وقع بدر على قلوب الناس كان كبيراً فعلاً، فقريش من أعظم القبائل العربية التي هزمت على يد هذه المجموعة الناشئة، ولا شك أن في ذلك مقومات قوة وظهور لا يتخيلها عموم القبائل العربية في ذلك الوقت؛ ولذلك كانت السنة التي تلت بدراً لها وضع ممتاز جداً بالنسبة للمسلمين.
وعاش المسلمون فيها فترة سعيدة من فترات إنشاء الدولة الإسلامية، وعلى النقيض تماماً الفترة التي تلت غزوة أحد كانت فترة صعبة جداً من أشد فترات السيرة النبوية صعوبة.
وقد مررنا بفترات كثيرة وصعبة في السيرة النبوية، وكل فترة لها طابع خاص، لكن الفترة التي أعقبت غزوة أحد بدأت كل القبائل العربية المحيطة بالمدينة المنورة وغيرها من أعداء الأمة تتربص الدوائر بالأمة الإسلامية؛ لأنها مصابة إصابة فادحة، فسبعون من الشهداء، وفرار الجيش الإسلامي من أرض موقعة أحد كان له واقع سيئ على نفوس المسلمين وسمعتهم، فمع أنهم قاموا من جديد في حمراء الأسد، لكن هذا الأمر لم يرد الكثير من السوء الذي أصاب السمعة الإسلامية.
تعالوا لنحلل الموقف بعد غزوة أحد.
إن أعداء الأمة الإسلامية الآن حوالي أربع طوائف: الطائفة الأولى الكبيرة: هي قريش، وقد هدأت بانتصارها في أحد، وقبلت ذلك الانتصار تعويضاً عن بدر، ولا يزال أمامها سنة قادمة للحرب مع المسلمين، بالإضافة إلى أنها ما زالت تتربص الدوائر بالمسلمين؛ لأن المسلمين ما زالوا يسيطرون على الطرق التي تمر منها القوافل التجارية القرشية من مكة إلى الشام، فلا بد لقريش أن تنهي أمر المسلمين، كذلك لم تكن مقتنعة تمام الاقتناع أنها أدت ما يجب أن تؤديه؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ما زال حياً وأبو بكر ما زال حياً وعمر ما زال حياً، وهؤلاء هم الذين سأل عنهم أبو سفيان، وهم يعلمون أن الدين الإسلامي نفسه عنده الإمكانية لتغيير الأفراد تغييراً جذرياً، ورأوا مجموعة كبيرة من الصحابة كانوا أناساً عاديين قبل الإسلام، وبعد الإسلام أصبحوا من القادة والمفكرين والمفاوضين وغير ذلك من الرموز الإسلامية المبهرة أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهم يخافون من كون هؤلاء القادة ما زال