وبعد حل مشكلة الأسرى جاء التشريع الإسلامي بأحكام حول قضية الأسرى، هذه الأحكام بإيجاز أن إمام المسلمين له الحق في الاختيار بين أربعة أمور: إما المن بغير فداء، وإما الفداء، وهذا الفداء قد يكون بمال أو قد يكون بتعليم أو قد يكون بأسير مثله، أي: تبادل أسرى، وإما قتل لمجرمي الحرب أو المعاملة بالمثل إن كان الكفار يقتلون المسلمين الأسارى.
الأمر الرابع: الاسترقاق: أن يحتفظ بالأسير رقيقاً عنده إلى أجل يحدده الإمام، حسب ما يرى من احتياج المسلمين.
هذه أربعة أمور يختار الإمام منها ما يريد، ويجوز للحاكم أن يتعاهد مع دولة ما أو مجموعة من الدول على طريقة معينة للتعامل مع الأسرى، آتية كأن يتعاهد مع دولة ما أو مع مجموعة من الدول أنه ليس هناك استرقاق، أو أنه ليس هناك قتل للأسرى، أو أنه ليس هناك كذا أو كذا على طريقة معينة ما دام الشرع يسمح بطرق مختلفة للتعامل مع الأسرى.
لكن هناك شيء مهم جداً، وهو أنه إذا احتفظت بالأسير فلا بد من إكرامه ورعايته رعاية أخلاقية سامية تليق بدين الإسلام، قال الله عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8].
وقد زرع الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الأخلاق في الصحابة من أول يوم كان لهم فيه أسرى، فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام في قضية الأسرى: (استوصوا بالأسارى خيراً)، فلما سمع الصحابة ذلك بذلوا كل ما يملكون في سبيل بذل الخير للأسارى، تخيل! هؤلاء الأسرى كانوا منذ أيام قليلة يحاولون قتل المسلمين، ومع ذلك نسي المسلمون ذلك تماماً وتذكروا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالأسارى خيراً).
يقول أبو عزيز بن عمير -وكان من أسارى بدر-: (كنت في نفر من الأنصار، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر وأطعموني البر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان عندهم خبز بر، وكانوا يقدمون هذا الخبز على طعام التمر؛ لأنه أفضل عندهم، فكانوا يعطونه الطعام الأفضل ويأخذون الأقل في الفضل تنفيذاً لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
فكان هذا تصرف الأنصار هذا له أثر كبير جداً على نفسية أبي عزيز بن عمير، فما هي إلا أيام بعد أن أطلق حتى أسلم رضي الله عنه وأرضاه.
كذلك أبو العاص بن الربيع كان من أسارى بدر، وهو زوج زينب ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان أسيراً من الأسرى، فقال: (كنت في رهط من الأنصار جزاهم الله خيراً، كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني بالخبز وأكلوا التمر، والخبز معهم قليل والتمر زادهم، حتى إن الرجل لتقع في يده كسرة فيدفعها إلي)، كل ذلك تنفيذاً لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة -أخو خالد بن الوليد رضي الله عنه- من أسارى بدر، وكان يقول مثل ذلك ويزيد، كان يقول: (وكانوا يحملوننا ويمشون)، يعني: لو رأوا واحداً منا متعباً أو مريضاً أو جريحاً حملوه ومشوا، فانظر إلى أي حد بلغ الرفق بالأسير، هذا هو المنهج الذي جعل الإسلام يدخل في قلوب الناس، فأسلم أبو العاص بن الربيع، وأسلم أبو عزيز بن عمير، وأسلم السائب بن عبيد، وأسلم الوليد بن الوليد وهكذا.
إذاً: كان هذا الأثر الخامس من آثار غزوة بدر، وعرفنا فيه التشريع الإسلامي في قضية الأسارى.