من أروع الأمثلة التي تذكر في أمر الفداء ما دار بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين عمه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وقد كان أسيراً في يوم بدر.
أنتم تعرفون أن العباس بن عبد المطلب خرج مستكرهاً إلى غزوة بدر، وقاتل مع المشركين فيها وأسر مع من أسر، وكان العباس غنياً، وليس من المستبعد أن يدفع فدية ليفتدي نفسه، فدار هذا الحوار اللطيف بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الحوار ينقل درجة من أعظم درجات الرقي في قيادة الدولة، ليس فيه أي نوع من الوساطة، ولا نوع من المحاباة للأقارب أو الأهل أو العشيرة.
قال العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! قد كنت مسلماً)، يعني: أنا كنت مسلماً ومخفياً إسلامي، فقال صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم بإسلامك، فإن يكن كما تقول فإن الله يجزيك، وأما ظاهرك فقد كان علي فافتد نفسك) سبحان الله! يقول له: أنت في الظاهر أنك في أرض الموقعة تحاربنا، وأما باطنك فالله أعلم، وهو الذي يحاسبك عليه، فالذي أنت عليه هذا الوقت أن تدفع الفدية كمشرك، وليس ذلك فقط، بل قال: (فافتد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب وحليفك عتبة بن عمرو) يعني: تدفع فديتك وكذلك فدية ثلاثة معك؛ لأن هؤلاء الثلاثة فقراء وهو غني.
فقال العباس: (ما ذاك عندي يا رسول الله!) أي: ليس لدي هذا الكم من الأموال التي أستطيع بها أن أدفع فدية للأربعة، (فقال صلى الله عليه وسلم: فأين المال الذي دفنته وأم الفضل، فقلت لها: إن أصبت في سفري هذا فهذا المال الذي دفنته لبني: الفضل وعبد الله وقثم)، قال الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك وهو لم يره، لكنه علم ذلك بالوحي، فقد قام العباس قبل أن يخرج إلى بدر بدفن مال كثير في مكة له ولـ أم الفضل، وحكى الرسول صلى الله عليه وسلم له الموقف، فقال العباس: (والله يا رسول الله! إني لأعلم أنك رسول الله! إن هذا الشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل) يعني: اقتنع العباس في هذا الوقت أنه رسول الله وأقسم بذلك، وأخبر رسول الله أنه سيدفع الفدية، لكن قال: (فاحسب لي يا رسول الله! ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي)، أي: كان معي في أرض بدر (20) أوقية من المال، أخذها المسلمون غنائم فاحسبها من الفدية، فقال صلى الله عليه وسلم: (ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك، لا، لن نحسبها من المال)، أي: لن نحسبها من الفدية، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال:70].
نزلت هذه الآيات في العباس رضي الله عنه، إن كنت فعلاً كما تقول أنك مسلم فإن الله سيعوضك عما دفعته، وإن كان غير هذا فإنه سبحانه وتعالى سيحاسبك، فقال العباس تعليقاً على هذه الآية بعد ذلك: (فأعطاني الله عز وجل مكان العشرين أوقية في الإسلام عشرين عبداً كلهم في يده مال يضرب به، مع ما أرجو من مغفرة الله عز وجل)؛ لأن الله قال: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال:70].
وهكذا يرينا الرسول عليه الصلاة والسلام كيفية تطبيق القانون على كل الناس، يطبق هذا القانون حتى وإن كان على العباس بن عبد المطلب، وقد تعجب الصحابة رضوا نالله عليهم من هذا الموقف، وكان الأنصار رضي الله عنه وأرضاهم في قلوبهم رقة عجيبة، لما رأوا هذا الأمر أشفقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يأخذ الفداء من عمه وعمه يحبه، خاصة أن العباس رضي الله عنه وأرضاه كان واقفاً مع الرسول عليه الصلاة والسلام في بيعة العقبة الثانية، فمعنى هذا: أنه قريب جداً من قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وليس هو كـ أبي لهب.
وجاء الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وحاولوا أن يعفوا العباس من الفدية بطريقة لطيفة ومؤدبة جداً، فقد كان الأنصار قمة في الأخلاق والإيمان.
قالوا: (يا رسول الله! ائذن لنا فلنترك لابن اختنا العباس فداءه)، كانت جدة العباس من بني النجار من الخزرج فقال الأنصار: يا رسول الله! اعف عن العباس لأجلنا، ولم يقولوا له: اعف عن العباس؛ لأنه عمك، ومعلوم أن العمومة أقرب بألف مرة من أن تكون