هذا الإذن بالقتال كان بداية تغير استراتيجي محوري مهم في خط سير المدينة المنورة، فقد أذن للمسلمين الآن أن يرفعوا عن أنفسهم الظلم الذي وقع عليهم، إن رأوا أن قدرتهم تسمح لهم بهذا.
فمن هو الذي ظلم المسلمين؟ إن الذي أوقع عليهم الظلم في الأساس هم أهل مكة الكافرين، ولم يكن الظلم من شخص واحد، بل كان ظلماً متعدداً مركباً.
ظلم في الجسد، بالتعذيب والحرق والإغراق والقتل أحياناً.
ظلم في المال بمصادرته بدون وجه حق، واغتصابه بالقوة.
ظلم في الديار في الطرد منها وأخذها، بل وبيعها وأكل ثمنها.
ظلم في النفس بالسب والقذف وتشويه السمعة.
ظلم في الحرية بالحبس والعزل عن المجتمع، ظلمات بعضها فوق بعض.
فماذا يعمل المسلمون حتى يرفعوا هذا الظلم عن أنفسهم؟ لو هجموا على مكة، قد لا يكون هذا أمراً حكيماً في ذلك التوقيت، إذ قوة المسلمين ما زالت ناشئة، وأعداد المسلمين ما زالت قليلة، والمدينة مضطربة بالمشركين واليهود، وليس من الممكن أن نترك المدينة لقتال أهل مكة، وفيها عدد هائل من المشركين واليهود الذين لم يؤمنوا بعد.
إذاً: الحل كان في مهاجمة قوافل قريش التي تتجه إلى الشام.
فهذه القوافل لا تحميها إلا قوة عسكرية بسيطة، وتقدر القوة الإسلامية أن تهاجمها، كما أن هذه القوافل تمر قريباً من المدينة، فلن يكون هناك جهد كبير على المسلمين، وفي نفس الوقت سيرجعون إلى المدينة بسرعة قبل أن تحصل مشاكل من اليهود أو المشركين.
ثم أنهم سيستعيدون جزءاً من أملاكهم المسلوبة، ويوقعون الرهبة في قلوب أعدائهم، فكانت هذه فكرة فيها أكثر من فائدة، وبذلك يرفع المسلمون الظلم عن كاهلهم بمهاجمة قوافل قريش.
وطبعاً هم في حالة حرب حقيقية، وليس هناك أي مجال لما يطعن به المستشرقون والعلمانيون بأن المسلمين يغيرون على الآمن من قريش، هذه حرب معلنة بين دولة المدينة المسلمة وبين دولة مكة الكافرة، وكل طرف من الطرفين يستحل دم الآخر وماله، وكل طرف من الطرفين يضرب مصالح الآخر، وهذا عرف في حالة الحرب متعارف عليه في كل الأزمان والأماكن، والإسلام دين واقعي يرد القوة بالقوة، ويشهر السيف في وجه من أشهر السيف عليه: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:41 - 42].
ثم بعد ذلك يلومون المسلمين أنهم يهاجمون قافلة من قوافل قريش التي سلبت كل أموال المسلمين، ولا يلومون من سلب أموال شعب بكامله، وهذا يحصل كثيراً ونراه في التاريخ.
كذلك يستاءون لو أن المسلمين قتلوا من قتلهم قبل ذلك وعذبهم وشردهم، ولا يستاءون ممن أباد الشعوب بالبارود والنابالم واليورانيوم والقنابل العنقودية وغير ذلك.
موازين مختلفة ومكاييل متباينة؛ لأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله عز وجل.