أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد: فمع الدرس الخامس من دروس السيرة النبوية في العهد المدني.
في الدروس السابقة تحدثنا عن الظروف التي بدأ فيها صلى الله عليه وسلم إنشاء دولته، وتحدثنا عن علاقته مع الطوائف المختلفة التي عاصرت هذا القيام، سواء كانوا من المسلمين أو من المشركين أو من اليهود.
ورأينا أن العلاقة كانت متأزمة إلى حد كبير جداً مع مشركي المدينة ومع اليهود، وكذلك موقف قريش كان شديد العداوة.
نريد أن نقف وقفة ونحلل موقف الرسول عليه السلام في هذا الوقت.
وقد مر علينا تقريباً ستة أشهر من ساعة بدء المرحلة المدنية من السيرة النبوية.
الوضع داخل المدينة كان فيه شيء من الاستقرار، لكنه استقرار على بركان قابل للانفجار في أية لحظة.
فالمسلمون في هذا الوقت يحكمون المدينة المنورة، لكن هناك قوى خطيرة جداً ما زالت تنتشر في المدينة، وهذه القوى كانت قوى موزعة ما بين مشرك لا يؤمن بالله عز وجل، مثل عبد الله بن أبي ابن سلول ومن معه من المشركين، أو يهودي منحرف علم الحق واتبع غيره.
والوضع خارج المدينة أيضاً كان فيه بعض الاستقرار، لكن هناك اضطرابات كثيرة أيضاً، وهناك معاهدات مع بعض القبائل المحيطة بالمدينة، لكن تهديد قريش للمدينة كان مستمراً.
فعلاقات قريش بالأعراب حول المدينة كانت قوية، ولا يستبعد أبداً أن يحدث هجوم قرشي شامل على المدينة المنورة بتعاون مع الأعراب أو مع المشركين داخل المدينة أو مع اليهود أو مع غيرهم.
فماذا يحدث إن بوغت المسلمون بهذا الهجوم؟ القتال حتى هذه اللحظة كان منهياً عنه، ولو حدث أن هجم المشركون فإن القاعدة التي كانت سارية في مكة: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94].
لكن الوضع في هذا الوقت تغير، والمسلمون الآن أصبح لهم شوكة، وأصبح لهم كيان ودولة، ولا يستقيم لمن أراد أن يقيم دولة إلا أن يكون قادراً على الدفاع عنها، لكن كيف يكون الدفاع، ولم ينزل الأمر بالقتال بعد؟ نزل حكم الله عز وجل بالإذن بالقتال للمسلمين، وتغير الوضع كله وتغيرت المرحلة، نزل قول الله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39].
فالتشريع في غاية الإحكام ليس عشوائياً أبداً، بل هناك فقه المرحلة.
فالمرحلة السابقة في مكة كانت تستلزم الكف والإعراض، أما هذه المرحلة فتستلزم الإذن بالقتال فقط وليس الفرض، فالإذن حسب الاستطاعة للقتال وحسب التقدير للقوة، لكن حينما يكون فرضاً فليس للمسلمين إلا أن يقاتلوا.
وسنلاحظ التدرج الجميل في التربية، فإنه لا يحمل الناس مرة واحدة على شيء يركونه.
فالناس بصفة عامة تكره القتال، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216].
فبما أن عامة الناس تكره القتال كان هناك نوع من التدرج، المرحلة الأولى إعراض، وهذه المرحلة إذن، وبعد ذلك فرض، وبعد ذلك قتال عامة الناس الذين يصدون عن سبيل الله.