اختارت قريش طريق العلاقات الدبلوماسية والمراسلات والمفاوضات مع أهل المدينة، لكنها كانت مفاوضات تحمل تهديداً خطيراً للمدينة المنورة، لم تكن في صورة عهود ومواثيق؛ بل كانت في صورة تهديد مباشر من القوة الأولى في الجزيرة العربية لقوة الأوس والخزرج.
راسلت قريش زعيم المشركين في المدينة عبد الله بن أبي ابن سلول، واستغلت رغبة عبد الله بن أبي ابن سلول في الملك والسيادة، وكراهيته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واستغلت طبيعته الخائنة التي لا تقدر على المواجهة، فأرسلت إليه وإلى مشركي المدينة بصفة عامة رسالة، ذكرها أبو داود في سننه، تقول قريش لـ عبد الله وأصحابه في هذه الرسالة: إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم باللات والعزى لتقتلنه أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح ذراريكم.
تهديد مباشر لمشركي الأوس والخزرج بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم أو بقتله، وجاء التهديد موافقاً لهوى عبد الله بن أبي ابن سلول؛ ولذلك فقد أخذ قراراً في منتهى الخطورة، إذ جمع المشركين من الأوس والخزرج وقرر أن يقاتل المسلمين من الأوس والخزرج، وهكذا تناسى عبد الله بن أبي ابن سلول تماماً عداءه القديم مع الأوس، تناسى الثارات العميقة والدماء التي سالت بين القبيلتين قبل ذلك، لم يعد يذكر إلا الحرب العقائدية الآن، سيقاتل المسلمين من أبناء الخزرج، وسيضع يده في يد المشركين من أبناء الأوس، فقد يظن البعض أن هذا غريب، لكنها حقيقة متكررة وسنة ثابتة، دائماً يجتمع أهل الباطل على اختلاف تصوراتهم وعقائدهم وطرقهم في التفكير لحرب المسلمين.
ستجدون ذلك متكرراً في قصة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الفتوح الإسلامية فتوح فارس والروم والأندلس، وفي الحروب الصليبية وحروب التتار، وفي احتلال أوروبا للعالم الإسلامي في القرن التاسع عشر والعشرين، وستجدونه الآن في أكثر من بقعة من بقاع العالم، وفي أكثر من نقطة من نقاط الصراع بين المسلمين وغيرهم، اتفاق اليهود مع النصارى، واتفاق اليهود مع الهندوس، واتفاق أمريكا مع روسيا، واتفاق إنجلترا مع فرنسا، واتفاق الشيوعيين مع الرأسماليين، ومع الاختلاف البين لهذه المدارس، إلا أنهم يتفقون ويتجمعون إذا كان عدوهم الإسلام، فالحرب عقائدية في المقام الأول، قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89].
فجمع عبد الله بن أبي ابن سلول المشركين من الأوس والخزرج لحرب المؤمنين من الأوس والخزرج، وتجمع كذلك المسلمون لحرب المشركين، بوادر حرب أهلية خطيرة، وفتنة طائفية داخلية ستنشب بين المسلمين وطائفة أخرى على غير دينهم، تعيش معهم في داخل البلد الواحد.
حينها جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وحاول قدر المستطاع أن يوقف الصراع قبل أن يبدأ، وصل إليهم بالفعل قبل القتال، لكنه لا يستطيع هنا أن يذكر بالجنة والنار والعقيدة والمبادئ الإسلامية؛ لأن هناك مشركين، فلا يستطيع أن يقول لهم: قال الله وقال الرسول، فأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام يضرب على وترين في منتهى الأهمية، وهما وتران يمثلان عاملاً مشتركاً بين الفريقين.
الوتر الأول: وتر التحدي وإثارة النخوة والعزة والإباء، وكل هذه معانٍ يفتخر بها العرب كلهم، سواء كانوا مسلمين أو مشركين، قال لهم: (لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت قريش تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم).
وهكذا حرك فيهم عنصر التحدي لقريش، وأخذ يلفت الأنظار إلى مكيدة قريش، ويقول لهم: لستم أنتم الذين تخدعكم قريش بمكيدة مكشوفة كهذه.
الوتر الثاني كان في منتهى الأهمية أيضاً: وتر الرحم والقبيلة.
قال لهم: (تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم؟) هل سيقتل الأوسي أوسياً؟ هل سيقتل الخزرجي خزرجياً؟ هل سيقتل اليثربي يثربياً من نفس الوطن، ويعيش نفس الظروف ويتعرض لنفس المخاطر؟ وهكذا ذكرهم جميعاً بالمواطنة ليثرب.
فلما سمع القوم هذا الكلام تفرقوا جميعاً مسلمهم ومشركهم، فهذه حكمة نبوية بالغة أنهت الفتنة الطائفية في داخل البلد الواحد تماماً، وأشد الناس فرحاً بهذه الفتنة الطائفية هم أعداء الأمة، فطرف ينهي طرفاً آخر، وطرف يقضي على طرف آخر، وهكذا كسرت شوكة الدولة دون عناء من الأعداء، وهذا الذي كانت تريده قريش، فالقائد الحكيم صلى الله عليه وسلم منع ذلك باقتدار، وعلى كل المخلصين لهذا الدين أن يستوعبوا هذا الدرس تماماً، فما أكثر ما تثار الفتن الطائفية في البلاد الإسلامية، ولا تجر على البلد إلا الويلات والدمار، بل ما أكثر ما تثار الفتن بين المسلمين والمسلمين، جماعة تحارب جماعة، أو سلطة تحارب جماعة، والجميع في مرتبة واحدة، وقد رأينا ذلك في فلسطين والعراق والأردن ومصر وليبيا والجزائر وفي غيرها وغيرها.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيف نتجنب الصراع الداخلي بكل وسيلة،