الأولى: المشركون من أهل المدينة من الأوس والخزرج، فهؤلاء كانوا في غاية الأهمية بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإستراتيجية العمل مع المشركين في داخل الدولة في الحالة السلمية هي إيصال الدعوة، والجوار بالتي هي أحسن، وتجنب الصدام قدر المستطاع، بل التعاون في القضايا المشتركة.
تعالوا لنرى موقف المشركين في المدينة من الرسول صلى الله عليه وسلم ما هي طبيعته؟ وكيف تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع كل واحد منهم؟ بعض المشركين لما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة قرروا الخروج منها، منهم أبو عامر الفاسق الذي كان معروفاً بـ أبي عامر الراهب.
هذا الرجل عندما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة قرر أن يخرج منها، ودار بينه وبين الرسول عليه الصلاة والسلام حوار أوضح فيه ما في داخله، وقرر الخروج من المدينة، هذا الرجل كان اسمه: أبو عامر عبد عمرو بن صيفي الأوسي، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة الذي استشهد في أحد.
هذا الرجل كان يدعي أنه راهب، وأنه على دين الحنيفية، ولبس المسوح وادعى العلم أيام الجاهلية، فلما هاجر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة، جاء إليه أبو عامر الراهب، وبدأ يحاوره، قال أبو عامر: ما هذا الدين الذي جئت به؟ قال صلى الله عليه وسلم: (جئت بالحنيفية دين إبراهيم، قال الراهب: فأنا عليها، فقال صلى الله عليه وسلم: إنك لست عليها) أي: هناك تحريف كبير في الديانة التي أنت عليها الآن.
قال أبو عامر الراهب: بلى عليها، إنك أدخلت يا محمد! في الحنيفية ما ليس منها، فقال صلى الله عليه وسلم: ما فعلت، ولكني جئت بها بيضاء نقية، قال أبو عامر الراهب: الكاذب أماته الله طريداً غريباً وحيداً)، يعرض برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبتهمه بالكذب، وأن الله عز وجل سيميته طريداً غريباً وحيداً، فقال صلى الله عليه وسلم: (أجل.
فمن كذب فعل الله تعالى به ذلك).
فكان أبو عامر الراهب كذلك؛ فإنه لما دار هذا الحوار بينهما وجد التفاعل من الأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتعامل معه كزعيم للمدينة المنورة، فبعد أن رأى ذلك لم يستطع أن يجلس في المدينة المنورة، وخرج منها وعاش في مكة المكرمة، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: بـ أبي عامر الفاسق بدلاً من أبي عامر الراهب.
عاش أبو عامر الفاسق في مكة المكرمة ثمان سنوات كاملة، إلى أن جاء الفتح الإسلامي لمكة المكرمة في سنة ثمان من الهجرة، فهرب من مكة واتجه إلى الطائف، ثم بعدها بقليل أسلم أهل الطائف سنة تسع من الهجرة، فهرب من الطائف وعاش في الشام، وهناك مات طريداً غريباً وحيداً، فهو وأمثاله من الناس الذين خرجوا من المدينة المنورة وعددهم بضعة عشر رجلاً، تركوا المدينة المنورة وهجروها إلى غيرها من البلدان، واستراح منهم العباد، لكن المجموعة الكبرى من مشركي الأوس والخزرج بقيت على شركها تعيش في داخل المدينة المنورة، وعلى رأس هؤلاء عبد الله بن أبي ابن سلول الذي أصبح بعد ذلك زعيم المنافقين، هذا الرجل كان زعيم الخزرج، وكانت له مكانة كبيرة في المدينة المنورة عند أوسها وخزرجها سواء، وهو الوحيد الذي اجتمع عليه الأوس والخزرج لكي ينصبوه ملكاً على المدينة، وذلك قبل قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا ينسجون له الخرز ليتوجوه كملك على المدينة المنورة، وهو أول اجتماع للمدينة المنورة على رجل واحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفجأة تغيرت الأحداث، وظهر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وآمن به ستة من الخزرج من قبيلته، ثم اثنا عشر رجلاً في بيعة العقبة الأولى، ثم ثلاثة وسبعون رجلاً في بيعة العقبة الثانية، كل هذا لم يعلم به عبد الله بن أبي ابن سلول.
مع أنه كان رئيس وفد المدينة للحج في العام الذي بايع فيه الأنصار بيعة العقبة الثانية عام (13) من البعثة النبوية، وكان وقتها مشركاً؛ وكان وفد المدينة يضم داخله (300) شخص من يثرب، منهم (75) مسلماً و (225) مشركاً، ولأنه كان زعيم الوفد كان يظن أنه يعرف كل شيء عن الوفد، ولما شك أهل قريش في إسلام بعض رجال الوفد ولقائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم نفى ذلك بشدة، وقال: لو حدث هذا لاستشارني قومي.
وفي ربيع أول من العام (14) من البعثة، أي: بعد ثلاثة شهور أو يزيد قليلاً، هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وصار رئيساً وزعيماً على المدينة المنورة، وهكذا استلم الرسول عليه الصلاة والسلام ما كان سيستلمه عبد الله بن أبي ابن سلول، فتحرك الحقد في قلبه على الرسول عليه الصلاة والسلام على أشد ما يكون.
تخيل موقف عبد الله بن أبي ابن سلول، فقد كان سيتوج ملكاً على المدينة لأول مرة في تاريخ المدينة