ما فعله صلى الله عليه وسلم من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ورفع قيمة الأخوة، وتقريب الأمور للمسلمين بأن هناك أجراً وثواباً وجنة نتيجة هذه الأعمال العظيمة التي يقومون بها؛ بعد ذلك كله رأى صلى الله عليه وسلم أن هذا ليس كافياً لتثبيت دعائم الأخوة في الدولة الإسلامية، فنحن سنكون دولة إسلامية حقيقية، دولة ستواجه تحديات خطيرة، ولا يستقيم أبداً أن يترك هذا الأمر فيها للنفس: أنا أريد أو لا أريد، أنا أحب أو لا أحب، بل لابد من وضع قوانين ودساتير مكتوبة، فوضع صلى الله عليه وسلم ما يعرف بالميثاق، وهو ميثاق مشهور وموجود في أكثر من رواية من روايات السيرة الموثقة، وفيه توضيح كامل للعلاقة بين المهاجرين والأنصار، وأصبح هذا القانون أو الدستور الذي يطبق في أي بلد من بلاد العالم ملزماً لجميع الأطراف.
هناك بنود كثيرة نمر على بعضها بإيجاز لضيق الوقت.
الأول: أنهم أمة واحدة من دون الناس، أذاب كل الفوارق بين عموم المسلمين فالمهاجرون والأنصار أمة واحدة.
الثاني: يقول صلى الله عليه وسلم: (المهاجرون من قريش يتعاقلون بينهم) أي: يدفعون الدية، فلو قتل أحد من المهاجرين أحداً من الناس، وكانت له الدية؛ يجتمع المهاجرون ليدفعوا دية القتيل.
قال: (وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين) يعني: لو أن أحداً من المهاجرين وقع في الأسر؛ يجتمع المهاجرون سوياً، ليدفعوا فدية هذا الأسير فيفكوا أسره.
قال: (وكل قبيلة من الأنصار يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين).
يعني: قسم الرسول عليه الصلاة والسلام المجتمع المسلم إلى عدة طوائف على أساس القبيلة، فالمهاجرون كلهم من قريش، وهذه المجموعة تجتمع سوياً لتفدي عانيها وتدفع الدية عن القاتل منها، وكذلك كل قبيلة من الأنصار، الأوس لوحدهم والخزرج لوحدهم، وقد يقسم الأوس إلى أكثر من فرع، والخزرج إلى أكثر من فرع.
قال: (على معاقلهم الأولى) أي: كما كانوا يتعاقلون قبل دخول الإسلام إلى المدينة المنورة.
وما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك إلا لأن المؤاخاة وحدها لا تستطيع دفع الديات وفك العاني، وليس هناك بيت مال للمسلمين، إذ إن الدولة كانت فقيرة جداً لا ثروات فيها، فلابد للمسلمين أن يخلصوا أمورهم بأنفسهم، إذا كان الأنصاري أخاً لواحد من المهاجرين، وحصلت عليه دية مقدارها مائة ناقة لن يقدر أن يدفعها له، فلابد أن يجتمع قوم على دفعها، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم أهل المدينة لهذا الأمر على أساس القبيلة، مع أن الإسلام يكره القبلية في أمور، ولكنه لا ينبذها بالكلية، بل لابد من أن يطور هذه الرابطة؛ لتخدم الإسلام والمسلمين في إطار الشرع، فجعلها في أمور المؤاخاة وفي أمور المواساة والتعاون على البر والتقوى بين المسلمين: فك الأسير، ودفع دية القاتل لأهل القتيل، والمساعدة في أمور المجتمع المختلفة بروابط الرحم التي بين القبيلة.
فكل واحد منهم يحرص على أن يحل مشكلة إخوانه عن طريق هذا القانون، وهذا القانون لا يستقيم تطبيقه أبداً إلا إذا رسخت معاني الأخوة التي تحدثنا عنها قبل ذلك؛ لذلك فإن التشريع الإسلامي كله لا نقدر أن نأخذ منه جزءاً ونترك جزءاً، قال تعالى: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]، فكل جزئية تكمل موضوعاً معيناً، وفي النهاية هذا الشرع المتكامل يصلح لإدارة الدنيا والدين.
إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام أقر مبدأ القبلية، ولكن في هذه الجزئية، ومبدأ القبلية مقبول في الفقه الإسلامي، ولكن في إطار الشرع كما ذكرنا، مثال ذلك: إذا اعتدي على حرمات دولة من دول الإسلام والمسلمين، فإن الشرع يفرض على أهل الدولة في داخل الخلافة الإسلامية الكبرى أن يقاتلوا في سبيل الله للدفاع عن أنفسهم، فإن لم يستطع أهل القطر الواحد أن يدفعوا عن أنفسهم لزم الأقرب فالأقرب أن يساعدهم، لكن لا يتعين القتال على أهل المغرب إذا احتلت بلدة من بلاد المشرق، إن كان أهل المشرق يستطيعون رد المعتدي.
فهذا الوضع يقبله الإسلام، ويقبله في أمور أخرى، كالزكاة، فلا تخرج الزكاة من قطر إلى آخر حتى تكفي أهل القطر، وهكذا بالضبط مع كل أمور الإسلام، فالإسلام واحد يكفي الأرض إلى يوم القيامة.
ولو افترضنا أن قبيلة من القبائل كانت فقيرة إلى الدرجة التي لا تستطيع فيها أن تدفع الفدية أو الدية، تأتي نقطة أخرى في الميثاق؛ لتحل هذه المشكلة، يقول صلى الله عليه وسلم: (وأن المؤمنين لا يتركون مفرحاً)، يعني: شخصاً كثير الأطفال، وعليه أزمات متلاحقة.
قال: (لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه في فداء أو عقل).
فلو افترضنا أن هناك قبيلة لم تستطع أن تدفع عن أحد المسلمين دية كانت عليه أو فدية، فلابد أن يجتمع المسلمون جميعاً، فهم مجتمع متماسك.
الثالث: (وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيسة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بي