وكان هؤلاء المجتهدون في بعض الأحوال بحرج هذه القيود وضيق قواعدهم بمصالح العباد فكانوا يخرجون من هذا الضيق بما يدعونه الاستحسان. ومن أمثلة هذا عقد المزارعة فهو على قواعد اجتهادهم باطل لكنهم لما رأوه ضروريًا لمصالح الناس أجازوه بطريق الاستحسان، وما هذا الاستحسان إلا بقية من روح الاجتهاد الفطري الذي كان سبيل السلف الأول.
وبإغفال المصالح المرسلة في التشريع وإلغاء اعتبار القرائن والأمارات في القضاء والتزام طرائق خاصة للوصول إلى الحق وتنفيذه ظهر الفقه الإسلامي بمظهر القاصر عن تدبير شئون الدولة الذي لا يتسع لمصالح الناس ولا يساير الزمن وتطوراته وأخذ الولاة السياسيون ورجال السلطة التنفيذية في الدولة ينظرون إلى مصالح الناس المطلقة ويدبرونها بما يكفلها من النظم والقوانين غير ملتزمين ما التزمه أولئك المجتهدون. وأكثر ما عنوا بسعته الطرق الحكمية وقوانين العقوبات لأن أكبر همهم توطيد الأمن والضرب على أيدي المجرمين. ولا بد لهذا من الأخذ بالقرائن والاكتفاء بالأمارات والخروج عن قيود الفقهاء. ومن ذلك الحين بدأ المسلمون يرون بينهم نوعين من النظم والأحكام:
أحدهما:
ما استنبطه الفقهاء المجتهدون على وفق أصولهم وقيودهم.
ثانيهما:
ما لجأ إليه الولاة السياسيون لتحقيق المصالح المطلقة ومسايرة الزمن، وكان هذا النوع الثاني يتبع حال واضعيه؛ فتارة يكون