أول أمرهم في التشريع والقضاء والتنفيذ كانت السبيل القويم في تدبير شئون الدولة. وكانت لا تضيق بحادث أو حاجة. ولا تقصر عن تحقيق أية مصلحة. ولا عن مسايرة الزمن في تطوراته، ومراعاة ما تقتضيه تغيرات الأزمان والأحوال. ويسلكونها ما شعر واحد بقصور الشريعة الإسلامية عن مصالح الناس ولا رميت بحاجتها إلى غيرها، وما عرف إذ ذاك حكم شرعي وآخر سياسي وإنما كانت الأحكام كلها شرعية مصدرها ما شرعه الله في كتابه وعلى لسان رسوله وما اهتدى إليه أولو الرأي باجتهادهم الذي تحروا به المصلحة، وبذلوا أقصى الجهد لتحقيقها، والله ما شرع الشرائع إلا لمصلحة عباده.

جاء بعد هذا عصر التزم فيه مجتهدو الفقهاء طرقًا خاصة في الاجتهاد ووضعوا شروطًا ورسومًا للمصالح الواجب اعتبارها. وسواء أكان الباعث لهم على هذا زيادة حرصهم على أن لا يتعدوا شرع الله أم اتهامهم عقولهم بالقصور على السابقين أم غير ذلك فإن هذا الالتزام قيد من حرية المجتهد وضيق دائرة الاجتهاد، وقضى بإغفال مراعاة كثير من المصالح المرسلة: وهي التي لم يرد في الشرع دليل بشأنها ولم يشهد الشارع باعتبارها ولا بإلغائها وبعد أن كان مجتهدو الصحابة يعملون لمطلق المصلحة لا لقيام شاهد بالاعتبار، وهاديهم في هذا فطرة سليمة ونظر صحح، صار الاعتبار لمصالح خاصة والمرجع إلى قواعد موضوعة. وبهذا بدأت تضيق دائرة التشريع وتلتزم في القضاء طرق خاصة للوصول إلى الحق وتغل اليد عن تنفيذ ما قد يكون فيه بعض الإصلاح.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015