قال ابن القيم: نظر جمهور الفقهاء -كمالك وأحمد وأبي حنيفة - إلى القرائن الظاهرة، والظن الغالب الملتحق بالقطع في اختصاص كل واحد منهما بما يصلح له، ورأوا أن الدعوى تترجح بما هو دون ذلك بكثير، كاليد، أي: وضع اليد والبراءة، والنكول، واليمين المردودة، والشاهد واليمين، والرجل والمرأتين فيثير ذلك ظنًا تترجح به الدعوى، ومعلوم أن الظن الحاصل ها هنا، يعني الحاصل من القرائن، أقوى بمراتب كثيرة من الظن الحاصل بتلك الأشياء، وهذا مما لا يمكن جحده ودفعه.
وقد نصب الله سبحانه على الحق الموجود والمشروع علامات وأمارات تدل عليه، وتبينه، ونصب على الإيمان والنفاق علامات وأدلة، واعتبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -من بعده- اعتبروا العلامات في الأحكام، أي: القرائن في الأحكام وأخذوا بها، وجعلوها مبينة لهذه الأحكام، كما اعتبر العلامات في اللقطة وجعلوا صفة الواصف لها آية وعلامة على صدقه، وأنها له، وجعل الصحابة الحبل علامة ودليلًا على الزنا فحدوا به المرأة، وإن لم تقر، ولم يشهد عليها أربعة، بل جعلوا الحبل أصدق من الشهادة، وجعلوا رائحة الخمر وقيئه لها آية وعلامة على شربها بمنزلة الإقرار والشاهدين.
واعتبر النبي -صلى الله عليه وسلم- إنبات الشعر حول القبل في البلوغ وجعله آية وعلامة له، فكان يقتل من الأسري يوم قريظة من وجدت فيه تلك العلامة، ويستبقى من لم تكن فيه، وأيضًا جعل الحيض علامة على براءة الرحم من الحمل.
وهكذا يبين لنا ابن القيم أن الصحابة -رضوان الله عليهم- أخذوا بالقرائن، ولذلك لا مانع من الأخذ بها؛ حتى لا تضيع الحقوق.