ومن أمثلة ذلك ما قام به الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي اشتهر لعدالته بأنه خامس الخلفاء الراشدين الحريص على إعادة سيرة عمر بن الخطاب في إدارة الدولة الإسلامية، إذ ظل هذا الخليفة متمسكًا بالقاعدة الأساسية للنظام الإداري اللامركزي للدولة الأموية والتأكيد على حرية الأمراء، وتوجيه كل منهم إلى العمل مع حرية التصرف ودون الرجوع إليه في بعض المسائل التي قد يضرّ تأخير البت فيها بمصالح أهالي ولايته.
وعرّف فقهاء المسلمين هذا اللون من الإدارة اللامركزية للولايات بأنها إمارة استكفاء، وهي التي يعقدها الخليفة لمن يختاره من رجاله الأكفاء مفوضين إليهم إمارة الإقليم على جميع أهله، ويجعله عامّ النظر في كل أموره، فصارت إمارة الاستكفاء لون من الامتياز يخصّ به الخليفة بعض الرجال ذوي القدرة العظيمة أو أصحاب الفضل الكبير على الدولة، فكان الخليفة يولي الفرد منهم ولاية كاملة على ناحية بعينها أو على بضع نواح أي: كان يستكفي بهذا النفر عمّن عداهم وبيدهم السلطات كلها على ما بأيديهم فهم مسئولون عن الأموال والقضاء وإمامة الناس.
واقتضى الحكم اللامركزي إعادة التقسيم الإداري للدولة بما يحقق للأمويين السيطرة الفعلية على أزمة الأمور، وتوجيهها في نفس الوقت إلى ما يكفل لسلطانهم الهيبة والاحترام في كل مكان، وجاء هذا التقسيم استجابة لمظاهر التطور الذي ساد بلاد الدولة الإسلامية منذ الفتنة على عهد الخليفة عثمان وما صاحب هذا التطور من تباين المشارب والأهواء،