يقول ابن خلدون: وأما أن يكون القصد بالعهد حفظ التراث على الأبناء فليس من المقاصد الدينية؛ إذ هو أمر من الله يخص به من يشاء من عباده، ينبغي أن تحسن فيه النية ما أمكن خوفًا من العبث بالمناصب الدينية، فهذا العمل الذي قد يكون خاتم ما يقوم به من نظرٍ في شئون الرعية هو مما سيحاسب عليه أمام ربه، وسيؤثر تأثيرًا عظيمًا في حياة أمةٍ بأكملها؛ ولذلك تخوف عمر لما طلبوا منه أن يستخلف، فقال: أتحملها حيًّا وميتًا، فهذا الإمام الذي يعطي عهده هذا التأثير في انعقاد البيعة لمن يخلفه، إنما هو شخصٌ اجتمعت فيه ضمانات قوية تحصنه في غالب الظن ضد الانحراف عن الجادة، فالثقة في هذا الإمام تامة، وخوفه من الله في غالب الظن متحقق، فإذا ما أعطى هذا الإمام هذا الحق، فإنه سيكون غالبًا معبرًا عن رأي الأمة فيمن تراه صالحًا لئن يلي الأمور من بعده.

وأما الأمر الثاني: الذي حدا العلماء على أن يقولوا بانعقاد البيعة بمجرد أن يعهد الإمام إلى آخر، فهو ما تفيده الظواهر السابقتين اللتين يستدل بهما العلماء على اعتبار العهد طريقًا في انعقاد الإمامة، ونعني بهما: عهد أبو بكر لعمر، وعهد عمر للستة الذين اختارهم، فإن هاتين لسابقتين تفيدان في الظاهر أن كلًّا من أبي بكر وعمر -رضي الله عنها- قد عهد من غير أن يجتمع مع عهده رضا الأمة بذلك ممثلة في أهل الحق في أهل الحل والعقد من كبار الصحابة، ونحب أن نبين أن كلًّا من الأمرين لا يصح أن يُجعل مرتكزًا للقول بانعقاد الإمامة بالعهد من الإمام وحده، وذلك لأنه بالنسبة إلى الأمر الأول فإنه مهما بلغت صفات الكمال في الخليفة فإنه بشرٌ غير معصومٍ من الخطأ لا يؤمن أن يميل في ساعة ضعفٍ إلى قريبٍ أو صديقٍ فيعهد إليه بأمر الخلافة، فكل هذا يدل على أن الإمام مهما اشترطنا فيه من شروط فهو بشرٌ، ليس ثمة ما يمنعه من أن يحيد عن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015