أرجاء العالم، وهكذا حصل الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- في مسقط رأسه بمكة قبل بعثته بخمس سنوات، حصل على صورة متكاملة لما آلت إليه الحياة القبلية بشتى نظمها ومؤسساتها؛ ذلك أن مكة غدت وأصبحت نتيجة وصولها إذ ذاك إلى المركز الديني والتجاري الأول في بلاد العرب، ووفود القبائل إليها من شتى أرجاء تلك البلاد، أقول: أصبحت تضم مجتمعًا متناقضًا، ترسبت فيه نظم تلك القبائل البدوي منها والحضري على السواء.
وتمثل هذا التناقض في النظم التي صارت عليها قريش نفسها فكان الفرد منهم يحتفظ بالعصبية القبلية في أبشع صورها من حيث السلب والنهب، والافتخار بالأحساب والأنساب، ويعتز في نفس الوقت بالتمايز الطبقي الذي صاحب حياة الاستقرار في هذا المركز الديني والتجاري، وهو مكة فدأب القرشي من الملأ -والملأ هذا: إنما هو مجلس يضم رؤساء أحياء قريش بعد توحيدها- على الافتخار بعشيرته من جهة وبثروته من جهة أخرى، وكان يسير في الطرقات وأنفه شامخ في زهوٍ وخيلاء حتى يكاد يخرق الأرض بقدميه رغبة في أن يبلغ الجبال طولًا، ثم هو ينطلق في أثناء مشيه سريع الغضب شديد البغي، يلطم من يعترض سبيله من المستضعفين، وهم الذين لا عشيرة أو قبيلة كبرى تحميهم.
وتحولت مكة قبيل بعثة الرسول الكريم بخمس سنواتٍ إلى مجتمع للمتناقضات في النظم القبلية، فهي مركز حضاري يتمسك أهله في نفس الوقت بالتقاليد البدوية الظاهرية، ومراعاتها شكليًا في واقع حياتهم، وما يتصل بتلك الحياة من معالم ومظاهر، فعاش فيها طبقة من أصحاب الثراء الواسع والترف العريض إلى جانب جماعات من الفقراء الساخطين الخاضعين لشتى مظاهر الاستغلال من