فريق يفرط في بعض أقوال الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويخرجها من التشريع نِهَائِيًا، ويعتبرها وليدة الطبيعة والجبلة والعادة المحضة، ولا علاقة لها بالرسالة، ويستوي رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في فعلها بأي رجل ولو كان كافرًا، فهي لا تخضع لوحي، ولا يحرسها وحي، ولا يؤخذ منها حكم شرعي.
وكان هذا الفريق بين مُقِلٍّ يحصر هذه الأفعال في بعض ما سبيله الحاجة البشرية، وبين مكثر أدخل فيها كل ما يتعلق بالمعاملات التي لم ترد في القرآن الكريم.
وفريق أفرط في تقديس المباحات من أفعاله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخلع عليها حكم السُنَّةِ والاستحباب، وأضفى عليها صبغة الإلزام ووجوب الاقتداء.
وليت كل فريق منهما عمل بما اعتقد، واكتفى في نفسه بما أصابه، ولم يعمل على نشر المرض بين الأَصِحَّاءِ مسار الآخرين، ليس بالحكمة والموعظة الحسنة، لكن بإصدار التعليمات إلى العلماء بأن يكونوا مثله، ولا يتجاوزوا ما هو عليه تارة (?)، وبتسفيه الآخرين تارة أخرى.
لقد فعل رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفعالاً مناسبة لظروفها وملابساتها، لا تقع منه لو كانت الظروف غير الظروف، فالتمسك بهذه الأفعال في غير ظروفها يشبه استعمال مكيف التبريد في الشتاء القاسي بِحُجَّةِ أنه استعمل في وقت من الأوقات.
رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكل بأصابعه، ولعق أصابعه بعد الأكل، وأمر أصحابه بلعق الأصابع، وَحَثَّهُمْ على لعق الإناء (?).
هذا صحيح، ولكن ما هي الظروف التي فعل فيها ذلك؟ وأمر فيها بذلك؟.
لو أنك في صحراء لا ماء فيها، وليس معك من الماء إلا ما يكفي شرابك، فوضعت طعامك المتيسر لك قطعًا من القرع مع قطعة من لحم كان مُجَفَّفًا في الشمس تسبح في ماء، فأخذت كسرة من خبز، وتتبعت قطع القرع السابحة في مائها بأصابعك، فأكلت ... هل تبقى أصابعك بما عليها من دسم لتصيب ثيابك؟ أو تصيب ثياب الآخرين؟ أو تلوث بها كل ما لاقت؟ أو تلعقها حيث لا ماء؟ لقد شَرَّعَ اللهُ في مثل هذه الحالات التيمم بدل الوضوء