مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ [لَهُ] عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً» (?).
قال الحافظ ابن حجر: «وَظَاهِرُ الإِطْلاَقِ [كِتَابَةُ الحَسَنَةِ] بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ» ثُمَّ قَالَ: «وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ حَسَنَةُ مَنْ تَرَكَ بِغَيْرِ اسْتِحْضَارِ [مَا قُيِّدَ بِهِ] دُونَ حَسَنَةِ الآخَرِ، لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ تَرْكَ المَعْصِيَةِ كَفٌّ عَنِ الشَّرِّ، وَالكَفُّ عَنِ الشَّرِّ خَيْرٌ» (?).
إن الاشتغال بالمباح - ولو بدون قصد الاستعانة به على البعد عن الحرام - يمنع من الاشتغال بالحرام، فهو وسيلة وسبب للبعد عن الحرام، فالجائع الذي يشتهي كُلَّ شَيْءٍ لو أنك أشبعته من أقل الأشياء انصرفت نفسه عن أطيب الأطعمة، وأمامنا الصائم قبل فطوره وبعد فطوره.
حتى الشهوة الجنسية - وهي أقوى ما يحكم الإنسان مِمَّا سبيله سبيل الحاجة البشرية - عندما تثور تتجه إلى الجميل والقبيح، فإذا ما أشبعت انصرفت عن الجميلة، وَكَثِيرًا مَا يَشْمَئِزُّ منها بعد أن تنطفئ شهوته، وينقضي مأربه، بل قد يعجز عن مباشرة الحرام إذا هو شبع من الحلال، ولذلك جاء في الحديث: «إِنَّ المَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ، وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ، فَإِذَا أَبْصَرَ أَحَدُكُمْ امْرَأَةً، فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ، فَإِنَّ ذَلكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ». وفي رواية " الترمذي ": «فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ فَإِنَّ مَعَهَا مِثْلَ الَّذِي مَعَهَا».
وفي حديث آخر: «إِذَا أَحَدُكُمْ أَعْجَبَتْهُ المَرْأَةُ، فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ، فَلْيَعْمِدْ إِلَى امْرَأَتِهِ فَلْيُوَاقِعْهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ» (?).
فالاشتغال بالمباح - ولو بدون قصد - يساعد على البعد عن الحرام، فله أجر وثواب، أجر الوسيلة المباحة للغاية الواجبة أو المُسْتَحَبَّةِ، كالخطوات إلى المسجد، وهذه النظرة هي التي دفعت الكعبي ليقول: «لاَ يُوجَدُ مُبَاحٌ فِي الشَّرِيعَةِ، بَلْ إِمَّا أَجْرٌ وَإِمَّا وِزْرٌ فَمَنْ اشْتَغَلَ بِمُبَاحٍ عَنْ المَعْصِيَةِ فَهُوَ مَأْجُورٌ عَلَيْهِ، وَكُلُّ فِعْلٍ يُقَالُ عَنْهُ: مُبَاحٌ، فَهُوَ فِي عَيْنِهِ تَرْكُ المَحْظُورِ، وَتَرْكُ المَحْظُورِ وَاجِبٌ مٌثَابٌ عَلَيْهِ» (?).
والحديث الصحيح يقول: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ» (?). فقد جعل - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مجرد قضاء الشهوة مع الزوجة - وهو أمر مباح - جعل مجرد الاشتغال بهذا الأمر صدقة، لأن