قال الحافظ ابن حجر: «وَالاسْتِدْلاَلُ بِهَذَا لِلْحِلِّ إِنَّمَا يَتِمُّ فِيمَا لَمْ يَأْتِ فِيهِ نَصٌّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» (?).
وإذا ثبت أن المباح تكليف شرعي ثبت أنه تشريع، وثبت أن كل أفعال النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تشريع.
أَوَّلاً: لو وضعت أمام ابنك تُفَّاحًا وبرتقالاً وموزًا وعنبًا وتمرًا، وَقُلْتَ لَهُ: كُلْ ما شئت من هذه الأصناف، فَأَكَلَ. أَيَكُونُ مُطِيعًا، أَمْ عَاصِيًا؟ أَيَكُونُ مُحْسِنًا أَمْ مُسِيئًا؟ لا خلاف أَنَّهُ يَكُونُ مُطِيعًا مُحْسِنًا، المُطِيعُ المُحْسِنُ يَسْتَحِقُّ الإِحْسَانَ.
وَلَوْ أَنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - أَكَلَ مِنْ حَيْثُ شَاءَ مِنْ ثِمَارِ الجَنَّةِ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الشَّجَرَةِ التِي نُهِيَ عَنْ الأَكْلِ مِنْهَا، يَكُونُ مُطِيعًا؟ أَمْ عَاصِيًا؟ مُحْسِنًا أم مُسِيئًا؟ لاَ شَكَّ أَنَّهُ يَكُونُ مُطِيعًا مُحْسِنًا يَسْتَحِقُّ الإِحْسَانَ.
وحينما قال الله تعالى لمريم: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} (?). وفعلت مريم ما أمرت به، أكلت وشربت وَقَرَّتْ عَيْنًا، فعلت ما هو في صالحها، وما هو محبوب لديها مما سبيله سبيل الحاجة البشرية، أتكون مطيعة أم عاصية؟ لا شك أنها تكون طائعة. فَفِعْلُ المُبَاحِ طاعة لله ولرسوله ولو لم يصحبه قصد الطاعة، ولا نِيَّةَ التقرب.
ثَانِيًا: يقول الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (?). أي سيئاتكم الصغائر، فجعل الله تعالى في مقابل اجتناب الكبائر أَجْرًا حَسَنًا، وهو ما نُعَبِّرُ عنه حين نقول: " المُحَرَّمُ مَا يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ، وَيُثَابُ عَلَىَ تَرْكِهِ "، ولا خلاف في هذا بين العلماء إذا صاحب هذا الاجتناب نِيَّة الطَّاعَةِ، وَقَصْدَ التَقَرُّبِ، واستحضار الخوف من الله، لكن قصدنا من هذا البحث أن مجرد اجتناب الكبائر إحسان يُثَابُ عَلَيْهِ، مهما كانت أسباب هذا الاجتناب، فقد ربط الله تعالى الأجر على الاجتناب ذاته، صاحبه نية تقرب أو لم يصاحبه.
ثَالِثًا: لا شك أن البعد عن الحرام يمنع العقاب عليه، ولو بدون قصد، فلا يعاقب على الزنا من لم يزن، حَتَّى مَنْ هَمَّ بالزنا ولم يزن لم يكتب عليه سيئة بل كتبت له حسنة،