التقى فارسان، فكانت بينهما لوحة معلقة، بيضاء من جهة أحدهما، سوداء من جهة الآخر، قال الأول: ما أجمل هذه اللوحة البيضاء؟، قال الثاني: إنها سوداء، وتجادلا حتى كَادَا يَقْتَتِلاَنِ، وأدركهما فارس ثالث، يعلم حقيقة اللوحة، فقال لهما: لا عليكما. تبادلا المواقع. فتبادلا، فوجد كل منهما أنَّ صاحبه كان على صواب.
وهكذا كثير من الخلافات بين الباحثين، تنشأ من عدم التلاقي على اصطلاح واحد أو عدم تحديدهم لموطن البحث، فيحكم كل منهم على شىء غير ما يحكم عليه الآخر وقد تكون عبارة الحكم غير دقيقة، كَأَنْ يُعَمَّمَ الحُكْمُ وَيُرِيدُ بِهِ خَاصًّا، أَوْ يُخَصَّصُ وَيُرِيدُ العُمُومَ، ولو حرر المراد ربما بطل الإيراد.
وموضوعنا (السُنَّةُ وَالتَّشْرِيعُ - أَوْ السُنَّةُ تَشْرِيعِيَّةٌ وَغَيْرُ تَشْرِيعِيَّةٍ - أَوْ السُنَّةُ كُلُّهَا تَشْرِيعٌ) موضوع أثير في هذه الأيام، وَعَالَجَهُ المُتَخَصِّصُ وَغَيْرُ المُتَخَصِّصِ، وكتبت فيه كتابات سطحية، وكتابات علمية. والتبس فيه الحق بالباطل، وكثر فيه اللغو، ونصبت حوله الشُبُهَاتُ، حتى كادت الحقيقة العلمية تختفى وراء الظلال.
ولو حرر المراد لانقشع الكثير من السحب، وربما تَمَّ الاتفاق بين المختلفين إذا صلح القصد وخلصت النيات.
القَضِيَّةُ مُكَوَّنَةٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ: السُنَّةُ وَالتَّشْرِيعُ.
وَالسُنَّةُ في اللغة الطريقة مُطْلَقًا، حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً، وفي التنزيل: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} (?).
قال الزجاج: «سُنَّةُ الأوَّلِينَ أَنَّهُمْ عَايَنُوا العَذَابَ، فَقَالَ المُشْرِكُونَ: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ}» (?).
وفي الحديث: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا» (?).
وكل من ابتدأ أمراً عمل به قوم بعده قيل: هو الذى سَنَّهُ.
وفي حديث المجوس: «سُنُّوا بِهِمْ سُنََّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» (?) أي خذوهم وعاملوهم على طريقة أهل الكتاب واقبلوا منهم الجزية (?).
والسُنَّةُ عتد الفقهاء تعدل المندوب والمُستحَبَّ، فهي حكم شرعى للفعل المطلوب