من قصد البرّ بهما وغيره، فلا يظهر أحدكم غير ما يبطن فإنّ ذلك لا ينفعه ولا ينجيه إلا أن يحمل نفسه على ما يكون سبباً لرحمتهما {إن تكونوا صالحين} أي: متقين محسنين في نفس الأمر والصلاح استقامة الفعل على ما يدعو الدليل إليه. وأشار تعالى إلى أنه لا يكون ذلك إلا بمعالجة النفس وترجيعها كرة بعد كرّة بقوله تعالى: {فإنه كان للأوابين} أي: الرجاعين إلى الخير مرّة إثر مرّة بعد جماح أنفسهم عنه {غفوراً} أي: بالغ الستر بمن وقع منه تقصير فرجع عنه فإنه مغفور له. ولما حث تعالى على الإحسان للوالدين بالخصوص عمّ بالأمر بالإحسان لكل ذي قرابة ورَحِمٍ وغيره بقوله تعالى:
{وآت ذا القربى} من جهة الأب والأمّ وإن بعد {حقه} والخطاب لكل أحد أن يؤتي أقاربه حقوقهم من صلة الرحم والمودّة والزيارة وحسن المعاشرة والمعاضدة ونحو ذلك. وقيل إن كانوا محتاجين ومحاويج وهو موسر لزمه الإنفاق عليهم عند الإمام أبي حنيفة وقال الشافعيّ: لا يلزم إلا نفقة الوالد على ولده والولد على والده فقط، وقيل المراد بالقرابة قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم {و} آت {المسكين} حقه وإن لم يكن قريباً {و} آت {ابن السبيل} وهو المسافر المنقطع عن ماله ليكون متقياً محسناً.
ولما رغب تعالى في البذل وكانت النفس قلما يكون فعلها قواماً بين الإفراط والتفريط أتبع ذلك بقوله تعالى: {ولا تبذر} بتفريق المال سرفاً وهو بذله فيما لا ينبغي وقد كانت الجاهلية تبذر أموالها في الفخر والسمعة وتذكر ذلك في أشعارها فأمر الله تعالى بالنفقة في وجوهها مما يقرب منه ويزلف إليه وفي قوله تعالى: {تبذيراً} تنبيه على أنّ الارتفاع نحو ساحة التبذير أولى من الهبوط إلى مضيق الشح والتقتير والتبذير بسط اليد في المال على حسب الهوى. وقد سئل ابن مسعود عن التبذير فقال: إنفاق المال في غير حقه، وأمّا الجود فهو اتباع أمر الله تعالى في حقوق المال. وعن مجاهد لو أنفق الإنسان ماله كله في الحق ما كان تبذيراً ولو أنفق مدّا في باطل كان تبذيراً وقد أنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر فقال له صاحبه لا خير في السرف فقال: لا سرف في الخير. وعن عبد الله بن عمر قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسعد وهو يتوضأ فقال: «ما هذا السرف يا سعد؟ قال: أوفي الوضوء سرف؟ قال: نعم وإن كنت على نهر جار» . ثم نبه تعالى على قبح التبذير بإضافته إياه إلى أفعال الشياطين بقوله تعالى:
{إنّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين} أي: على طريقتهم أو هم إخوانهم وأصدقاؤهم لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف أو هم قرناؤهم وهم في النار على سبيل التوعد، ثم إنه تعالى بين صفة الشيطان بقوله تعالى: {وكان الشيطان} أي: هذا الجنس البعيد من كل خير المحترق بكل شرّ {لربه} أي: الذي أحسن إليه بإيجاده وتربيته {كفوراً} أي: ستوراً لما يقدر على ستره من آياته الظاهرة ونعمته الباهرة مع الحجة فلا ينبغي أن يطاع لأنه لا يدعو إلا إلى مثل فعله.
قال بعض العلماء: خرجت هذه الآية على وفق عادة العرب وذلك لأنهم كانوا يجمعون الأموال بالنهب والغارة ثم كانوا ينفقونها في الخيلاء والتفاخر وكان المشركون من قريش وغيرهم ينفقون أموالهم ليصدّوا الناس عن الإسلام وتوهين أهله وإعانة أعدائه فنزلت هذه الآية تنبيهاً على قبح أفعالهم في هذا الباب