الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم والحكم عليهم بالكفر والضلالة وذلك مما يشوّش قلوبهم ويوحش صدورهم ويحمل أكثرهم على قصد ذلك الداعي بالقتل تارة وبالضرب ثانياً وبالشتم ثالثاً.
ثم إنّ ذلك الداعي المحق إذا سمع تلك السفاهات لا بدّ وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء تارة بالقتل وتارة بالضرب فعند هذا أمر المحقين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف وترك الزيادة فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه.
فإن قيل: فهل تقدحون فيما روي أنه عليه الصلاة والسلام ترك العزم على ترك المثلة وكفر عن يمينه بسبب هذه الآية؟ أجيب: بأنه لا حاجة إلى القدح في تلك الرواية لأنّ تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية فيمكن التمسك في تلك الواقعة بعموم هذه الآية وذلك لا يوجب سوء الترتيب في كلام الله تعالى. تنبيه: أمر الله تعالى برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية، ورتب ذلك على أربع مراتب المرتبة الأولى: قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} أي: إن رغبتم في استيفاء القصاص فاقنعوا بالمثل، ولا تزيدوا عليه فإنّ استيفاء الزيادة ظلم والظلم ممنوع منه في عدل الله تعالى ورحمته، وفي قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} دليل على أنّ الأولى له أن لا يفعل كما أنك إذا قلت للمريض: إن كنت تأكل الفاكهة فكل التفاح كان معناه: أنّ الأولى بك أن لا تأكله فذكر تعالى بطريق الرمز، والتعريض أنّ الأولى تركه. المرتبة الثانية: الانتقال من التعريض إلى التصريح وهو قوله تعالى: {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} وهذا تصريح بأنّ الأولى ترك ذلك الانتقام لأنّ الرحمة أفضل من القسوة والانتفاع أفضل من الانتقام. وقرأ لهو قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون برفعها. المرتبة الثالثة: هو الأمر الجازم بالترك وهو قوله تعالى:
{واصبر} لأنه في المرتبة الثانية ذكر أنّ الترك خير وأولى وفي هذه المرتبة الثالثة: صرّح بالأمر بالصبر في هذا المقام. ولما كان الصبر في هذا المقام شديداً شاقاً ذكر بعده ما يفيد سهولته بقوله تعالى: {وما صبرك إلا بالله} أي: الملك الأعظم الذي شرع لك هذا الشرع الأقوم فذلك بتوفيقه ومعونته وهذا هو السبب الكلي الأصلي. ثم ذكر بعده ما هو السبب الجزئي القريب بقوله سبحانه وتعالى: {ولا تحزن عليهم} أي: في شدّة كفرهم فتبالغ في الحرص الباخع للنفس {ولا تك في ضيق} ولو قل كما لوّح إليه بتنوين التحقير {مما يمكرون} أي: من استمرار مكرهم بك {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} (الحجر، 99)
وكأنك به وقد أتى فاصبر فإنّ الله معزك ومظهر دينك. وقرأ ابن كثير بكسر الضاد والباقون بنصبها. تنبيه: هذا من الكلام المقلوب لأنّ الضيق صفة والصفة تكون حاصلة في الموصوف ولا يكون الموصوف حاصلاً في الصفة فكان المعنى: ولا يكن الضيق فيك إلا أنّ الفائدة في قوله تعالى: {ولا تك في ضيق} هو أنّ الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل الجوانب وصار كالقميص المحيط به فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ هذا المعنى. المرتبة الرابعة: قوله تعالى:
{إنّ الله} أي: الجامع لصفات الكمال بلطفه وعونه {مع الذين اتقوا} أي: وجد منهم الخوف من الله تعالى واجتنبوا المعاصي {والذين هم محسنون} في أعمالهم والشفقة على خلقه، وهذا يجري مجرى