غرائز وطبائع توجب هذه الأحوال، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله في سورة النمل، عند قوله تعالى: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} . (النمل، 18)
ولما كان أهم شيء للحيوانات بعد الراحة من همّ المقيل أكل شيء، ثنى به فقال:
{ثم كلي من كل الثمرات} أي: من كل ثمرة يشتهيها مرّها وحلوها، وذكر ذلك بحرف التراخي إشارة إلى عجيب الصنع في ذلك وتيسيره لها. تنبيه: لفظ من هذا للتبعيض أو لابتداء الغاية. ولما أذن لها في ذلك كله، وكان من المعلوم عادة أنّ تعاطيه لا يكون إلا بمشقة عظيمة في معاناة السير إليه نبه على خرقه العادة في تيسيره لها بقوله تعالى: {فاسلكي سبل ربك} أي: الطرق التي ألهمك الله تعالى أن تسلكيها وتدخلي فيها لأجل طلب الثمار وقوله تعالى: {ذللاً} جمع ذلول حال من السبل، أي: مسخرة لك فلا تعسر عليك وإن توعرت ولا تضلي عن العود وإن بعدت. وقيل: من الضمير في اسلكي، أي: منقادة لأربابها حتى أنهم ينقلونها من مكان إلى مكان آخر حيث شاؤوا وأرادوا لا تستعصي عليهم. وقوله تعالى: {يخرج من بطونها} فيه عدول عن خطاب النحل إلى خطاب الناس لأنه محل الإنعام عليهم والمقصود من خلق النحل وإلهامه لأجلهم {شراب} أي: عسل {مختلف ألوانه} ما بين أبيض وأحمر وأصفر وغير ذلك من ألوان العسل وذلك على قدر ما تأكل من الثمار والأزهار ويستحيل في بطونها عسلاً بقدرة الله تعالى، ثم يخرج من أفواهها يسيل كاللعاب. وقال الرازي: إنه رأى في بعض كتب الطب أنّ العسل طل من السماء ينزل كالترنجبين فيقع على الأزهار وأوراق الشجر فتجمعه النحل فتأكل بعضه وتدّخر بعضه في بيوتها لأنفسها لتتغذى به فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير فذلك هو العسل وقال هذا القول أقرب إلى العقل لأنّ طبيعة الترنجبين تقرب من طبيعة العسل وأيضاً إنا نشاهد أنّ النحل يتغذى بالعسل وأجاب، عن قوله تعالى: {يخرج من بطونها شراب} إنّ كل تجويف داخل البدن يسمى بطناًفقوله: {يخرج من بطونها} أي: من أفواهها انتهى.
والأوّل كما قال ابن الخازن وغيره أظهر لأنا نشاهد أنّ العسل يوجد فيه طعم تلك الأزهار التي يأكلها النحل وكذا توجد لذتها وريحها وطعمها فيه أيضاً، ويعضد هذا قول بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم له: «أكلت مغافير؟ قال: لا، قالت: ما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: سقتني حفصة شربة عسل. قالت: جرست نحله العرفط» . والعرفط شجر الطلع له صبغ يقال له: المغافير كريه الرائحة، فمعنى جرست نحله العرفط أكلت ورعت من العرفط الذي له الرائحة الكريهة، فثبت بهذا أنه يوجد في طعم العسل ولونه وريحه طعم ما يأكله النحل ولونه وريحه لا ما قاله الأطباء من أنه طل لأنه لو كان طلاً لكان على لون واحد وقوله: كل تجويف في داخل البدن يسمى بطناً خلاف الظاهر لأنّ لفظ البطن إذا أطلق لم يرد به إلا العضو المعروف بطن الإنسان وغيره. {فيه} أي: الشراب الذي يخرج من بطون النحل {شفاء للناس} من الأوجاع كما قال ابن عباس وابن مسعود، إمّا لبعضها كما دلّ عليه تنكير شفاء، وإمّا لكلها بضميمته إلى غيره إذ قل معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل أو بدونه بنيته وبهذا سقط ما قيل إنه يضرّ بأصحاب الصفراء ويهيج الحرارة، ويضرّ بالشباب