البعيد، ومنع من وصول خبره إليه مع قرب إحدى البلدتين من الأخرى في مدّة ثمانين سنة، وذلك يدل على أن كل سهل فهو في زمان المحنة صعب، وكل صعب فهو في زمان الإقبال سهل، ومعنى {أجد ريح يوسف} أشم وعبر بالوجود؛ لأنه وجدان له بحاسة الشم {لولا أن تفندون} ، أي: تنسبوني إلى الخرف.
قال أبو بكر الأنباري: أفند الرجل إذا خرف وتغير عقله. وعن الأصمعي إذا كثر كلام الرجل من خرف فهو مفند. قال في «الكشاف» : يقال: شيخ مفنّد ولا يقال: عجوز مفندة؛ لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأى حتى تفند في كبرها، وقيل: التفنيد الإفساد يقال: فندت فلاناً إذا أفسدت رأيه ورددته قال بعضهم:
*يا صاحبيّ دعا لومي وتفنيدي
... فليس ما فات من أمر بمردود
ولما ذكر يعقوب عليه السلام ذلك
{قالوا} ، أي: الحاضرون عنده {تالله إنك لفي ضلالك} ، أي: حبك {القديم} ليوسف لا تنساه ولا تذهل عنه على بعد العهد، وهو كقول إخوة يوسف: {إن أبانا لفي ضلال مبين} (يوسف، 8) وقال مقاتل: معنى الضلال هنا الشقاء، أي: شقاء الدنيا، والمعنى إنك لفي شقائك القديم بما تكابده من الأحزان على يوسف، وقال الحسن: إنما خاطبوه بذلك لاعتقادهم أنّ يوسف قد مات، فكان يعقوب في ولوعه بذكره ذاهباً عن الرشد والصواب، ثم أنهم عجلوا له بشيراً فأسرع قبل وصولهم بالقميص {فلما} وزيدت {أن} لتأكيد مجيئه على تلك الحالة، وزيادتها بعد لما قياس مطرد {جاء البشير} وهو يهوذا بذلك القميص {ألقاه} ، أي: طرحه البشير {على وجهه} ، أي: يعقوب، وقيل: ألقاه يعقوب على وجه نفسه {فارتدّ} ، أي: رجع {بصيراً} ، أي: صيره الله بصيراً كما كان، كما يقال: طالت النخلة، والله تعالى هو الذي أطالها. ولما ألقى القميص على وجهه وبشر بحياة يوسف عليه السلام عظم فرحه، وانشرح صدره، وزالت أحزانه فعند ذلك {قال} لبنيه {ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون} من حياة يوسف وإنا الله تعالى يجمع بيننا، قال السهيليّ: لما جاء البشير إلى يعقوب عليه السلام، أعطاه في: بشارته كلمات كان يرويها عن أبيه عن جدّه عليهم السلام، وهي: يا لطيفاً فوق كل لطيف ألطف بي في أموري كلها كما أحب ورضني في دنياي وآخرتي. وروي أنّ يعقوب عليه السلام قال للبشير: كيف تركت يوسف؟ قال: تركته ملك مصر. قال: ما أصنع بالملك على أي دين تركته؟ قال: على دين الإسلام. قال: الآن تمت النعمة فعند ذلك
{قالوا يا أبانا} منادين بالأداة التي تدل على الاهتمام العظيم بما بعدها لما له من عظيم الوقع {استغفر} ، أي: اطلب من الله تعالى أن يغفر {لنا ذنوبنا} ، أي: التي اقترفناها ثم قالوا مؤكدين تحقيقاً للإخلاص في التوبة {إنا كنا خاطئين} ، أي: متعمدين للإثم بما ارتكبنا في أمر يوسف عليه السلام ومن حق المعترف بذنبه أن يصفح عنه، ويسأل له المغفرة. قال صلى الله عليه وسلم «إنّ العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه» . فكأنه قيل: فما قال لهم؟ فقيل:
{قال} لهم: {سوف أستغفر} ، أي: أطلب أن يغفر {لكم ربي} الذي أحسن إليّ بأنّ يغفر لبنيّ حتى لا يفرق بيني وبينهم في دار البقاء والربوبية ملك هو أتم الملك على الإطلاق وهو ملك الله تعالى، وظاهر هذا الكلام أنه لم يستغفر لهم في الحال بل وعدهم بأن يستغفر لهم بعد ذلك،