بالابتداء والخبر هو قوله: {في يوسف} ، أي: وتفريطكم كائن أو مستقر في يوسف، وإلى هذا ذهب الفارسي، وقيل: غير ذلك ولا نطيل بذكره إذ في هذا القدر كفاية {فلن أبرح} ، أي: أفارق {الأرض} ، أي: أرض مصر {حتى يأذن لي أبي} ، أي: بالعود إليه {أو يحكم الله لي} بخلاص أخي {وهو خير الحاكمين} ، أي: أعدلهم، فإن قيل: هذه الواقعة من أولها إلى آخرها تزوير وكذب، فكيف يجوز ليوسف عليه السلام أن يعمل مثل هذه الأعمال بأبيه ولم يخبره بمكانه، وحبس أخاه أيضاً عنده مع علمه بشدة وجدان أبيه عليه وشدة غمه وفيه ما فيه من العقوق وإيذاء الناس من غير ذنب لاسيما ويعلم أنه إذا حبس أخاه عنده بهذه التهمة فإنه يعظم حزن أبيه ويشتد غمه، فكيف يليق بالرسول المعصوم المبالغة في التزوير إلى هذا الحد؟
أجيب: بأجوبة كثيرة للعلماء، وأحسنها أنه إنما فعل ذلك بأمر من الله تعالى له لا عن أمره وإنما أمره الله تعالى بذلك ليزيد بلاء يعقوب عليه السلام، فيضاعف له الأجر على البلاء ويلحقه بدرجة آبائه، ولله تعالى أسرار لا يعلمها أحد من خلقه، وهو المتصرف في خلقه بما يشاء، فهو الذي أخفى خبر يوسف عن يعقوب في هذه المدة مع قرب المسافة لما يريد أن يدبره فيهم، والله أعلم بأحوال عباده، ثم قال كبيرهم:
{ارجعوا إلى أبيكم} دوني {فقولوا} له، أي: متلطفين في خطابكم {يا أبانا} وأكدوا مقالتكم فإنه ينكرها وقولوا {إن ابنك سرق} فإن قيل: كيف يحكمون عليه بأنه سرق من غير بينة وهو قد أجابهم بالجواب الشافي، فقال: الذي جعل الصاع في رحلي هو الذي جعل البضاعة في رحالكم؟ أجيب: بأنهم لما شاهدوا الصاع وقد أخرج من متاعه غلب على ظنهم أنه سرق فلذلك نسبوه إلى السرقة في ظاهر الأمر لا في حقيقة الحال، ويدل على أنهم لم يقطعوا عليه بالسرقة قولهم {وما شهدنا} عليه {إلا بما علمنا} ظاهراً من رؤيتنا الصاع يخرج من وعائه، وأما قوله: وضع الصاع في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم، فالفرق ظاهر؛ لأن هناك لما رجعوا بالبضاعة إليهم اعترفوا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم، وأما هذا الصاع فإن أحداً لم يعترف بأنه هو الذي وضع الصاع في رحله، فلهذا السبب غلب على ظنهم أنه سرق، فشهدوا بناء على الظن {وما كنا للغيب} ، أي: ما غاب عنا حين أعطينا الموثق {حافظين} ، أي: ما كنا نعلم أن ابنك يسرق، ويصير أمرنا إلى هذا ولو علمنا ذلك ما ذهبنا به معنا، وإنما قلنا: ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه سبيل، وحقيقة الحال غير معلومة لنا، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى، فلعل الصاع دس في رحله، ونحن لا نعلم ذلك، فلعل حيلة دبرت في ذلك غاب عنا علمها كما صنع في رد بضاعتنا.
{واسأل القرية} ، أي: أهلها على حذف المضاف، وهو مجاز مشهور، وقيل: إنه مجاز لكنه من باب إطلاق المحل وإرادة الحال {التي كنا فيها} وهي مصر عما أخبرناك به يخبروك بصدقنا، فإن الأمر قد اشتهر عندهم، وقيل: هي قرية من قرى مصر كانوا ارتحلوا منها إلى مصر {و} اسأل {العير} ، أي: القافلة، وهم قوم من كنعان جيران يعقوب عليه السلام {التي أقبلنا فيها} والسؤال طلب الأخبار بأداته من الهمزة، أو هل أو غيرهما، والقرية الأرض الجامعة لحدود فاصلة وأصلها من قريت الماء جمعته، والعير قافلة الحمير من العير بالفتح وهو الحمار هذا هو الأصل ثم كثر حتى استعمل في غير الحمير، ولما كان ذلك