فعلوا ذلك من أنفسهم؛ لأنهم لما طلبوا السقاية فلم يجدوها، ولم يكن هناك أحد غيرهم غلب على ظنهم أنهم الذين أخذوها. ولما وصل إليهم الرسول قال لهم: ألم نحسن ضيافتكم ونكرم مثواكم ونفيكم كيلكم وفعلنا بكم ما لم نفعل بغيركم؟ قالوا: بلى، وما ذاك؟ قالوا: سقاية الملك فقدناها ولا نتهم عليها غيركم فذلك قوله تعالى:
{قالوا و} الحال أنهم قد {أقبلوا عليهم} ، أي: على جماعة الملك المنادي وغيره {ماذا} ، أي: ما الذي {تفقدون} مما يمكننا أخذه والفقدان ضدّ الوجود {قالوا نفقد} وكان للسقاية اسمان فعبروا بقولهم {صواع الملك} والصواع هو المكيال وهو السقاية المتقدّمة سموه تارة كذا وتارة كذا، وإنما اتخذوا هذا الإناء مكيالاً لعزة ما يكال به في ذلك الوقت. {ولمن جاء به حمل بعير} ، أي: من الطعام، والبعير يطلق لغة على الذكر خاصة وأطلقه بعضهم على الناقة أيضاً، وجعله نظير إنسان وهو ما جرى عليه الفقهاء في باب الوصية، والجمع في القلة على أبعرة، وفي الكثرة على بعران {وأنا به زعيم} قال مجاهد: هذا الزعيم هو الذي أذن، والزعيم الكفيل، وهذه الآية تدل على أنّ الكفالة كانت صحيحة في شرعهم، وقد حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «الزعيم غارم» .
وإذا ورد في شرعنا ما يقرّر شرع غيرنا، هل يكون شرعاً لنا؟ في ذلك خلاف والراجح أنه ليس بشرع لنا. فإن قيل: كيف تصح هذه الكفالة مع أنّ السارق لا يستحق شيئاً؟ أجيب: بأنهم لم يكونوا سراقاً في الحقيقة فيحمل ذلك على مثل رد الضائع، فيكون ذلك جعالة أو أنّ مثل هذه الكفالة، كانت جائزة عندهم في ذلك الزمان.
{قالوا} ، أي: أخوة يوسف عليه السلام {تالله} التاء حرف قسم، وهي عند الجمهور بدل من واو القسم، والواو بدل من الباء، فهي فرع الفرع، فلذلك ضعفت عن التصريف في الأسماء، فلا تدخل إلا على الجلالة الكريمة أو الرب مضافاً للكعبة أو الرحمن في قول ضعيف، ولو قلت: تالرحمن لم يجز، أي: والله {لقد علمتم} أي: بما جرّبتم من أمانتنا قبل هذا في كون مجيئنا {ما جئنا} وأكدوا النفي باللام فقالوا {لنفسد} ، أي: نوقع الفساد {في الأرض} ، أي: أرض مصر {و} لقد علمتم {ما كنا} ، أي: بوجه من الوجوه {سارقين} ، أي: موصوفين بهذا الوصف قطعاً. فإن قيل: من أين علموا ذلك؟ أجيب: بأنّ ذلك يعلم مما رأوا من أحوالهم، وقيل: لأنهم ردّوا البضاعة التي جعلت في رحالهم، قالوا: فلوا كنا سارقين ما رددناها، وقيل: قالوا ذلك؛ لأنهم كانوا معروفين بأنهم لا يتناولون ما ليس لهم، وكانوا إذا دخلوا مصر كمموا أفواه دوابهم كي لا تتناول شيئاً من حروث الناس.
{قالوا} ، أي: أصحاب يوسف عليه السلام المنادي ومن معه {فما جزاؤه} ، أي: السارق، وقيل: الصواع {إن كنتم كاذبين} في قولكم: ما كنا سارقين ووجد فيكم، والجزاء مقابلة العمل بما يستحق من خير وشر.
{قالوا} وثوقاً منهم بالبراءة وإخباراً بالحكم عندهم {جزاؤه من وجد في رحله} ولتحققهم البراءة علقوا الحكم على مجرد الوجدان لا السرقة، ثم أكدوا ذلك بقولهم: {فهو جزاؤه} قال ابن عباس: كان ذلك الزمان كل سارق بسرقته فلذلك قالوا ذلك، أي: فالسارق جزاؤه أن يسلم بسرقته إلى المسروق منه فيسترق سنّة، وكان ذلك سنّة آل يعقوب في حكم السارق وكان حكم ملك مصر أن يضرب السارق ويغرم ضعفي قيمة المسروق، فأراد يوسف أن يحبس