{وقطعنّ أيديهنّ} ، أي: جرحنها بالسكاكين التي معهنّ، وهنّ يحسبن أنهنّ يقطعنّ الأترج، ولم يجدن الألم من فرط الدهشة بيوسف، وقال وهب: مات جماعة منهنّ {وقلن حاش لله} ، أي: تنزيهاً، له الرسم بغير ألف بعد الشين.
وقرأ أبو عمرو في الوصل دون الوقف بألف بعد الشين والباقون بغير ألف وقفاً ووصلاً {ما هذا} ، أي: يوسف عليه السلام {بشراً} وإعمال ما عمل ليس هي اللغة القدمى الحجازية ويدل عليها هذه الآية وقوله تعالى {ما هنّ أمّهاتهم} (المجادلة، 2) {إن} ، أي: ما {هذا إلا ملك كريم} ، أي: على الله لما حواه من الحسن الذي لا يكون عادة في النسمة البشرية، فإنّ الجمع بين الجمال الرائق والكمال الفائق والعصمة البالغة من خواص الملائكة.
{قالت} ، أي: زليخا للنسوة لما رأين يوسف ودهشن عند رؤيته {فذلكن} ، أي: فهذا هو {الذي لمتنني فيه} ، أي: في محبته قبل أن تتصوّرنّه حق تصوره ولو تصورتنه بما عاينتن لعذرتنني، ثم أنها صرحت بما فعلت فقالت: {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} ، أي: فامتنع من ذلك الفعل الذي طلبت، وإنما صرحت بذلك؛ لأنها علمت أنها لا ملامة عليها منهنّ، وأنهنّ قد أصابهنّ ما أصابها عند رؤيته، ثم قالت: {ولئن لم يفعل ما آمره} ، أي: وإن لم يطاوعني فيما دعوته إليه {ليسجنن} ، أي: ليعاقبن بالحبس {وليكونا من الصاغرين} ، أي: الذليلين المهانين، فقال النسوة ليوسف: أطع مولاتك فيما دعتك إليه، فاختار يوسف عليه السلام السجن على ما دعت إليه فلذلك.
{قال رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه} وإن كان هذا مما تشتهيه النفس، وذلك مما تكرهه نظراً إلى العاقبة، فإنّ الأوّل فيه الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة، والثاني فيه المدح في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة. فإن قيل: إنّ الدعاء كان منها فلم أضافه إليهنّ جميعاً؟ أجيب: بأنهنّ خوّفنه من مخالفتها وزين له مطاوعتها، وقيل: إنهنّ دعونه إلى أنفسهنّ. قال بعض العلماء لو لم يقل السجن، أحب إليّ لم يبتل بالسجن والأولى بالعبد أن يسأل الله تعالى العافية، ولذلك ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على من كان يسأل الله الصبر بقوله له: «سألت الله البلاء فاسأله العافية» رواه الترمذي {وإلا} ، أي: وإن لم {تصرف عني كيدهنّ} ، أي: فيما أردن مني بالتثبيت على العصمة {أصب} ، أي: أمل {إليهنّ} يقال: صبا فلان إلى كذا إذا مال إليه واشتاقه {وأكن} ، أي: أصر {من الجاهلين} ، أي: من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه، فإن الحكيم لا يفعل القبيح وفي ذلك دليل على أن من ارتكب ذنباً إنما يرتكبه عن جهالة، والقصد بذلك الدعاء ولذلك قال تعالى:
{فاستجاب له ربه} ، أي: فأجاب الله تعالى دعاءه الذي تضمنه هذا الثناء؛ لأنّ الكريم يغنيه التلويح عن التصريح كما قيل:
*إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاك من تعرّضه الثناء
{فصرف عنه كيدهن} ، أي: فثبته بالعصمة حتى وطن نفسه على مشقة السجن وآثرها على اللذة المتضمنة للعصيان {إنه هو السميع} ، أي: لدعاء الملتجئين إليه {العليم} ، أي: للضمائر والنيات فيجيب ما صح فيه القصد وطاب منه العزم.
{ثم بدا} ، أي: ظهر {لهم} ، أي: العزيز وأصحابه {من بعد ما رأوا الآيات} ، أي: الدالة على براءة يوسف عليه السلام كشهادة الصبيّ وقدّ القميص وقطع النساء أيديهنّ واستعصامه عنهنّ {ليسجننه حتى} ، أي: إلى {حين} ينقطع فيه كلام الناس، وذلك أنّ