والمقصود منه أن يصرّح عيسى عليه السلام بالبراءة من ذلك فكذلك هنا. وقرأ ابن كثير والكسائي بنقل حركة الهمزة إلى السين والباقون بالهمزة وسكون السين. وقيل الخطاب لكل من يسمع، أي: إن كنت أيها السامع في شك مما أنزلنا على لسان نبينا إليك. وفيه تنبيه على أنّ من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم، وأظهر هذه الأقوال أوّلها، وهذه الأقوال تجري في قوله تعالى: {لقد جاءك الحق من ربك} أي: الآيات القاطعة لا مدخل للمرية فيه {فلا تكونن من الممترين} أي: الشاكين فيه، وفي قوله تعالى:
{ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين} أي: الذين خسروا أنفسهم
{إنّ الذين حقت عليهم كلمة ربك} أي: ثبت عليهم قوله تعالى الذي كتبه في اللوح المحفوظ وأخبر به الملائكة أنهم {لا يؤمنون} أي: يموتون كفاراً فلا يكون غيره، إذ لا يكذب كلامه ولا ينتقض قضاؤه.
{ولو جاءتهم كل آية} فإنّ السبب الأصلي لإيمانهم وهو تعلق إرادة الله تعالى به مفقود، فإنّ الدليل لا يهدي إلا بإعانة الله تعالى، وإذا لم تحصل تلك الإعانة ضاعت تلك الدلائل {حتى يروا العذاب الأليم} فحينئذٍ لا ينفعهم الإيمان كما لم ينفع فرعون. وقرأ نافع وابن عامر كلمات بألف بعد الميم على الجمع، والباقون بغير ألف على الإفراد.
القصة الثالثة: قصة يونس عليه السلام المذكورة بقوله تعالى:
وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ? وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}
{فلولا} أي: فهلا {كانت قرية} واحدة من قرى الأمم الماضية التي أهلكناها {آمنت} أي: آمن أهلها عند إتيان الآيات أو عند رؤية أسباب العذاب {فنفعها} أي: فتسبب عن إيمانها ذلك أنه نفعها {إيمانها} بأن تقبله الله تعالى منها وكشف العذاب عنها، وقوله تعالى: {إلا قوم يونس} استثناء منقطع بمعنى لكن قوم يونس {لما آمنوا} أي: لما أخلصوا الإيمان أوّل ما رأوا آية العذاب ولم يؤخروه إلى حلوله {كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا} ويجوز أن يكون متصلاً، والجملة في معنى النفي لتضمن حرف التحضيض معناه كأنه قيل: ما آمن أهل قرية من القرى الهالكة فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس {ومتعناهم إلى حين} أي: إلى انقضاء آجالهم. روي عن ابن مسعود وغيره: أنّ قوم يونس كانوا بأرض نينوى من أرض الموصل، فأرسل الله تعالى إليهم يونس عليه السلام، يدعوهم إلى الإيمان فدعاهم فأبوا فقيل له: إنّ العذاب مصبحهم إلى ثلاثة أيام فأخبرهم بذلك فقالوا: إنا لم نجرب عليك كذباً، فانظروا فإن بات فيكم تلك الليلة فليس بشيء، وإن لم يبت فاعلموا أنّ العذاب مصبحكم.
فلما كان في جوف تلك الليلة خرج يونس عليه السلام من بين أظهرهم، فلما أصبحوا تغشاهم العذاب فكان فوق رؤوسهم قدر ميل. وقال وهب: غامت السماء غيماً عظيماً، أسود هائلاً يدخن دخاناً عظيماً فهبط حتى غشى مدينتهم واسودّت سطوحهم، فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك، فطلبوا يونس بينهم فلم يجدوه، وقذف الله تعالى في قلوبهم التوبة، فخرجوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وأولادهم ودوابهم ولبسوا المسوح، وأظهروا الإيمان والتوبة، وأخلصوا النية، وفرّقوا بين كل والدة وولدها من النساء والدواب فحنّ بعضها إلى بعض، وعلت أصواتها واختلطت بأصواتهم، وعجوا وتضرّعوا إلى الله تعالى وقالوا آمنا بما جاء به يونس عليه السلام، فرحمهم الله تعالى، واستجاب دعاءهم،